Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

إن المحـب الصادق للرسول صلى الله عليه وسلم يهمه إتباع أوامره والعمل بسنته والحكم بشريعته والإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
m019.jpg

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " اللهم إني أتخَّذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأيُّ المؤمنين آذيتُه، شتمتُه، لعنتُه، جلدتُه، فاجعلها له صلاةً وزكاةً وقُربةً تقرِّبه بها إليك يوم القيامة " ([1]).

مظهر الرحمة:

هذا في مقام التنزل فهو (صلى الله عليه وسلم) بعيد عن ذلك كله، وليس من خلقه ذلك، ومع هذا جعل للاحتمال بديلاً بأن يعوض الله من وقع عليه شيء من ذلك بأن تكون له رحمة ونجاة يوم القيامة.

وعن أبي الدرداء (رضي الله عنه) قال: كنت جالسًا عند النبي (صلى الله عليه وسلم) إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): أما صاحبكم فقد غامر. فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر. ثلاثا ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر. فقالوا: لا فأتى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فسلَّم، فجعل وجه النبي (صلى الله عليه وسلم) يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه. فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين فما أوذي بعدها" ([2]).

مظهر الرحمة:

لقد أشفق النبي (صلى الله عليه وسلم) على حال أبي بكر حين قدم منزعجاً ودعا له رحمة به ومواساة؛ لأنه قدَّم خطوة إلى الإصلاح. والإشارة إلى صنائع المعروف التي قدمها أبو بكر وهي تقتضي الوقوف معه وعذره وتحمل أخطائه؛ لأن من أعظم ما يجرح الإنسان تجاهل ماضيه ومواقفه، وهذا من صور الرحمة بأبي بكر (رضي الله عنه) ، أما رحمة أبي بكر (رضي الله عنه) نفسه فلها حديث آخر.

وعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس وقال: " إن الله خيرََّ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله . قال فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله ! عن عبد خير، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكنْ أخوَّة الإسلام ومودَّته، لا يبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ إلا بابَ أبي بكر" ([3]).

مظهر الرحمة:

تصوَّرْ إنساناً يُقرأ عليه وداع صاحبه وأيُّ صاحب إنه أحبُّ إلى النفس من النفس والولد والوالد.. يقرأ عليه فراق عزيز عليه وما يلم به من الشعور بالغربة وتوقع الوحدة والوحشة بعده، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يسرِّي عن أبي بكر بهذه الكلمات وهذه المميّزات رحمة بأبي بكر.

وعن سهل بن سعد (رضي الله عنه) قال: " جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيت فاطمة فلم يجد علياًّ في البيت فقال: أين ابنُ عمِّك. قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقِل عندي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لإنسان انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقِّه وأصابه تراب، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب " ([4]).

مظهر الرحمة:

هذا يشتمل على رحمته بابنته، ورحمته بزوجها، وحسن التلطُّف مع القريب، والمداعبة مفتاح القلب النافر؛ لأن كيان الأسرة إذا لم تظلِّله الرحمة سوف يتمزق، فتقبَّل النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث، واستوعب الموقف، وأغلق منافذ التفاعل السلبي، واختصر القضية بكلمات داعب بها علياً، ولم يلتفت إلى خصوماتهم التي تزول مع الوقت رحمةً بهم عن التفرُّق والاختلاف.

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عمُّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها ، ثم قال : يا عمر أما شعرت أن عمَّ الرجل صنو أبيه؟" ([5]).

مظهر الرحمة:

منهج رائد في إنزال الناس منازلهم وانتقاء المعاذير والمخارج وتذكر السابقة الحسنة.. وهذا من أعظم الأخلاق، والرحمة بذوي الهيئات الذين تشفع لهم مواقفهم وتاريخهم.. من غير إخلال بالشرع.

وعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه): أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخذ بيده وقال: " يا معاذ والله إني لأحبك، فقال معاذ: وأنا أحبك يا رسول الله" فقال: " أوصيك يا معاذ لا تدعنَّ في دبر كل صلاة تقول اللهم أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك " ([6]).

مظهر الرحمة:

هذا الهدي لمعاذ وغيره من الأمة، ولكن بدأ بمعاذ وافتتحه بكلمة الحبِّ؛ تشويقاً للعمل، وتخفيفاً لهذا التكليف الذي يتكرَّر في كل يوم خمس مرات.. فصُدِّر بالمحبة رحمةً بالمكلف.

وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): " أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب - وإن عيني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتذرفان -، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففُتح له" ([7]).

مظهر الرحمة:

مع حبه (صلى الله عليه وسلم) للجهاد وحث أصحابه عليه إلا أنه يرحمهم حين يبلغه مصرعهم ويواسي ذويهم بالمشاركة الشعورية والإحساس والعطف، فكم لهذه الدموع من آثار في نفوس أهل الميت.

وعن مالك بن الحويرث (رضي الله عنه) قال: أتينا النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألَنا عمّن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: " ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم، ومروهم، وصلُّوا كما رأيتموني أصلِّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن لكم أحدكم، ثم ليؤمَّكم أكبرُكم " ([8]).

مظاهر الرحمة:

إن فطنة النبي (صلى الله عليه وسلم) ودقة ملاحظته جعلته يدرك ويقرأ في أحوال القوم شوقهم إلى أهلهم خاصة وهم شباب لا يتحملون الغربة، فلم يكلفهم حرج السؤال؛ بل بادرهم فابتدأهم ليفتح المجال للاعتذار، وفي هذا من الرحمة والإحساس ما لا يدركه إلا قليل من الناس حتى مع أبنائهم.

وختمها الصحابي بقوله:
(وكان رقيقاً رحيمًا) لما عرفوه من حاله معهم أثناء إقامتهم.
ومعْلمٌ آخر تتجلَّى فيه الرحمة حيث ربط الإذن بالانصراف بمهمة شريفة وهو التعليم والصلاة. ما يُطيِّب خواطرهم، فلا تثريب ولا تعنيف فصلى الله عليه وسلم من معلم رفيق بأصحابه.

وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه (رضي الله عنه)حدَّثه: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج وساروا معه نحو مكة حتى إذا كانوا من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف، وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة.. وهو يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل([9])، فأتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقيل له: يا رسول الله هل لك في سهل والله ما يرفع رأسه وما يفيق. قال: هل تتهمون فيه من أحد؟ قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عامراً فتغيَّظ عليه، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برَّكت، ثم قال له: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صبَّ ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه، ثم يكفئ القدح وراءه، ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس" ([10]).

مظاهر الرحمة:

تغيُّظ النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه الحادثة وتسميته لها قتلاً يدل على رحمته بالمريض.

وسماه (أخاه) لمزيد التأثير والتعاطف والتلطف في المعاملة مع العائن. (هلا إذا رأيت ما يعجبك برَّكت).

وأمره بالاغتسال فيه رحمة بالاثنين حتى يكون رحمة للعالمين.

وعن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتدَّ بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفاتصدق بثلثي مالي ؟ قال: لا. قلت بالشطر ؟ فقال: لا. ثم قال: الثلث والثلث كبير أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك. فقلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي ؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة: ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام: ويضر بك آخرون، اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم؛ لكن البائس سعد بن خولة. يرثي له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة" ([11]).

مظاهر الرحمة:

من مظاهر رحمته (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث عيادة المريض وهذا باب عظيم من الإحسان والرحمة.

ومنها النظرة البصيرة لأحوال الورثة، والرفق بهم، وبالنفس كذلك، فإن الإنسان قد يندفع في لحظة إشراق فيتخلى عن أشياء يندم عليها إذا عادت إليه بعض حساباته.

وكذلك الإشارة إلى النفقة على العيال في حياة الإنسان فإنه من أبواب الخير؛ لأنه مقتضى رحمته بهم.

وكذلك إشارة إلى فتح باب الأمل أمام المريض الذي قرب منه اليأس رحمةً به، وختمها بالدعاء له في أبواب الخير التي يتطلَّع لها الإنسان في حالة الضعف، وتذكُّره لحال صحابي آخر كنوع من الإحساس بالآخرين.
وعن سعد (رضي الله عنه) قال: " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أعطى رهطا وأنا جالس فيهم قال: فترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إليَّ فقمت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فساورته فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمناً؟ قال: أو مسلما فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. قال: أو مسلماً فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. قال: أو مسلمًا. قال: إني لأعطي الرجلَ وغيرُه أحبُّ إليَّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه" ([12]).

مظهر الرحمة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا شرح الحديث: " إن العطاء ليس لمجرد الإيمان؛ بل أعطي وأمنع، والذي أترك أحب إليَّ من الذي أعطيه؛ لأن الذي أعطيه لو لم أعطه لكفر فأعطيه لأحفظ عليه إيمانه، ولا أدخله في زمرة: ) مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ (، والذي أمنعه معه من اليقين والإيمان ما يغنيه عن الدنيا، وهو أحب إليَّ وعندي أفضل وهو يعتصم بحبل الله تعالى ورسوله ويعتاض بنصيبه من الدين عن نصيبه من الدنيا، كما اعتاض به أبو بكر وغيره وكما اعتاضت الأنصار حين ذهب الطلقاء وأهل نجد بالشاة والبعير وانطلقوا هم برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم لو كان العطاء لمجرد الإيمان فمن أين لك أن هذا مؤمن ؟ بل يجوز أن يكون مسلماً و إن لم يدخل الإيمان في قلبه فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعلم من سعد بتمييز المؤمن من غيره حيث أمكن التمييز" ([13]).

عن أنس (رضي الله عنه): (لما قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة، وشرع في بناء المسجد بها): طفق ينقل مع أصحابه اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا أبر ربنا وأطهر. ويقول: اللهمَّ إن الأجرَ أجر الآخره فارحم الأنصارَ والمهاجره " ([14]).

مظاهر الرحمة:

من تنمية الرصيد العاطفي الاعتراف للآخرين بجهودهم.. وإظهار المقارنة التي يتجلَّى فيها الفارق بين عملين صورتهما واحدة ومقاصدهما مختلفة، وكذلك الدعاء بالرحمة تخفِّفُ المشقَّةَ والمعاناة، وشملهم جميعاً بالدعاء دون تفرقة؛ ليؤكد معنى الأخوة والاجتماع، والتعاون، وربط الأجر بالآخرة وليس أجور الدنيا العاجلة رحمة لتطلُّع النفوس.

وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلاً يقرأ في المسجد. فقال: " رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آيةً أسقطتهنّ من سورة كذا وكذا "، ولفظ مسلم: " أنسيتها " ([15]).

مظهر الرحمة:

يقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) الشكر والثناء والبذل، ولو على صعيد الكلمة لكل من قدَّم له شيئاً.. فهذا بمجرد قراءته حصل له هذا الدعاء العظيم.. فهنيئاً له.

وعن عائشة: تهجّد النبي (صلى الله عليه وسلم) في بيتي فسمع صوت عبَّادٍ يصلي في المسجد. فقال: " يا عائشة أصوتُ عبَّادٍ هذا ؟. قلت: نعم. قال: " اللهم ارحم عبَّاداً " ([16]).

مظهر الرحمة:

إن العبادة من صور التضرُّع والخضوع، وحال العابد تستدعي الرحمة والعطف، فكأن النبي (صلى الله عليه وسلم) عاش تلك المشاعر واللحظات التي سيطرت على عبَّادٍ فدعا له بما يطلب وهي الرحمة.

وعن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) قال: " نَثَل لي النبي (صلى الله عليه وسلم) كنانته يوم أحد فقال: ارمِ فداك أبي وأمي " ([17]).

مظهر الرحمة:

يعطي (صلى الله عليه وسلم) من الدعاء والثناء على قدر حال الإنسان، فهذا الصحابي الجليل ناضل وجاهد وقاوم المشركين عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما جعله يواسيه، يقابل جهوده ويشدُّ أزره ويعوِّض نفسه بهذا الدعاء الذي انفرد به عن غيره من الصحابة. قال علي: ما سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك " ([18]).

وعن جابر (رضي الله عنه) قال: سافرت معه (صلى الله عليه وسلم) في بعض أسفاره -قال أبو عقيل: لا أدري غزوة أو عمرة- فلما أن أقبلنا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): من أحبَّ أن يتعجَّل إلى أهله فليعجل. قال جابر: فأقبلنا وأنا على جمل لي أرمك ليس فيه شية والناس خلفي، فبينا أنا كذلك إذ قام عليَّ. فقال لي النبي (صلى الله عليه وسلم): يا جابر استمسك. فضربه بسوطه ضربة فوثب البعير مكانه فقال: أتبيع الجمل. قلت نعم، فلما قدمنا المدينة ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط، فقلت له: هذا جملك، فخرج فجعل يطيف بالجمل، ويقول: الجملُ جملُنا. فبعث النبي (صلى الله عليه وسلم) أواقٍ من ذهب فقال: أعطوها جابرًا. ثم قال: استوفيتَ الثمنَ. قلت: نعم. قال: الثمنُ والجملُ لك " ([19]).

مظهر الرحمة:

تقدير شوق المسافر إلى أهله وإتاحة الفرصة لمن له رغبة في المبادرة والعجلة في أهله.

قوله لجابر: ( استمسك.. ) خشي النبي (صلى الله عليه وسلم) أن نفس جابر لا زالت متعلقة بالجمل، فجمع له بين الثمن والمثمن.

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال إني مجهود([20]) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ثم أرسل إلى أخرى فقالت: مثل ذلك حتى قلن كلُّهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال: من يضيف هذا الليلةَ رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء ؟ قالت: لا إلا قوت صبياني قال: فعلِّليهم بشيء فإذا دخل ضيفُنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) فقال: قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة " ([21]).

مظهر الرحمة:

الرحمة الأولى: عرضه على نسائه إضافة هذا المجهود.

والثانية: دعاؤه بالرحمة لمن يقوم بضيافته.

والثالثة: إدخال السرور على المضيف حين أخبره بعلم الله بحاله وعجبه منهما، فهو دليل الرحمة والإنصاف لما بذل من كرم وسخاء جعله يقدم ضيفه على أهله وأولاده.

وعن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: أن أبا بكر استأذن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته، ثم انصرف قال عثمان، ثم استأذنت عليه، فجلس وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك فقضيت إليه حاجتي، ثم انصرفت فقالت عائشة: يا رسول الله ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان ؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إن عثمان رجل حييٌّ، وإني خشيتُ إن أذنتُ له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ حاجتُه" ([22]).

مظهر الرحمة:

وهذا من أعظم تقدير الأحوال الشخصية، وفهم النفسيات. فقد يكون لأبي بكر وعمر من الحضوة والجرأة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما يحملهما على إبداء مرادهما، ولما عُرف عن عثمان من الحياء فقد يمنعه ذلك من إبداء مراده، فرحم النبي (صلى الله عليه وسلم) عثمان من أن يرجع وحاجته في نفسه.

وعن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر وقال: تقوَّوا لعدوكم ، وصام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ([23]).

قال أبو بكر : قال الذي حدثني: لقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالعرج يصبُّ على رأسه الماء من العطش أو من الحر، ثم قيل: يا رسول الله إن طائفة من الناس قد صاموا حين صمت، فلما كان بالكديد دعا بقدح فشرب فأفطر الناس" ([24]).

مظهر الرحمة:

قد يحتمل القائد أكثر من غيره، وهذا لا يعني إلزام الآخرين بنفس العبء الذي تحمله، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أذن بل أمرهم بالفطر؛ لئلا يجتمع عليهم صيام وسفر وجهاد، رحمةً بهم وتخفيفاً عن معاناتهم.

وعن عقبة بن عامر قال: " صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع إلى المنبر فقال: " إني بين أيديكم فرط (أي سابقكم)، وإني عليكم لشهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لستُ أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدُّنيا أن تتنافسوا فيها. قال: فكانت آخرَ نظرةٍ نظرتهُا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " ([25]).

مظهر الرحمة:

الخَطْبُ في وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جسيم، ووَقعُ أجلهِ على الأمة خطير، ومن أشد الأمور على النفس أن يُنْعى عليك من تحب نفسه. فرحمته بالأمة وخاصة في حضرة منهم جعل هذه المقدمة لتخفِّف وقع الخبر، فلم يقل: (قرب أجلي)؛ بل قال: (إني بين أيديكم فرط) كأحد صور العزاء، وعليكم شهيداً وحسبكم عدلاً بهذا الشاهد، فلا خوف من الجور. وتحديد الموعد بالحوض تشويق للقاء منتظر، وطمأنة لهم من خطر المزالق وهو الشرك. وتحذير لهم من الغفلة خلف الدنيا والغرق في الشهوات فهي العنت والنَّكد.

رحمته (صلى الله عليه وسلم) بأهل الصفَّة:

أهل الصفَّة هم: فقراء الصحابة الذين لا أهل لهم ولا مأوى ولا ولد، كانوا ينزلون في سقيفة في ناحية من مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والصفَّة كانت في مؤخر مسجد النبي في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من كان من فقراء المسلمين ([26]) .

لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعهَّد أهل الصفَّة بنفسه، فيزورهم ويتفقَّد أحوالهم، ويعود مرضاهم كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم، ويقصُّ عليهم، ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة، ويشجِّعُهم على احتقار الدنيا، وعدم تمني الحصول على متاعها.. وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يوزِّع أهل الصفَّة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتعشُّوا عندهم، ويقول: " من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس، فيأخذ الصحابة بعضهم ومن بقي منهم يصحبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى داره فيتعشون معه ".. ويبدو أن الأمر كان كذلك في بداية الهجرة فلما جاء الله بالغنى لم تعد هناك حاجة لتوزيعهم على دور الصحابة([27]).

مظهر الرحمة:

ومع حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للعمل والتكسب الحلال، وحثُّه على شرف المهنة عن المسألة، فإنه يقدر لبعض النفوس رغبتها بالانقطاع عن الدنيا، وعدم التشوُّق إلى المباحات أو التوسُّع في مطالب النفوس.

ومن رحمته بهؤلاء الخلطة معهم، وإدخال السرور عليهم، ومؤانستهم؛ لئلا يشعروا بشيء من الدونيَّة أو الانتقاص.

عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمرَّ ولم يفعل، ثم مرَّ بي أبو القاسم (صلى الله عليه وسلم) فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله قال: الْحَقْ ومضى فاتبعته، فدخل فأستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن. قالوا أهداه لك فلان أو فلانة قال: أبا هر. قلت: لبيك يا رسول الله قال: الحَقْ إلى أهل الصفَّة فادْعُهم لي " ([28]).

مظهر الرحمة:

برغم المعاناة الشخصية لم ينس الفقراء؛ بل أول ما يطرأ عليه أحوال المساكين إذا قُدِّم إليه شيء، وقد كان من شدة حرصه عليهم أن يعرف ذلك في وجوههم، ويكفيهم عناء المسألة والشكوى.

عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: " خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلة فقال: ادعُ لي أصحابي يعني أهل الصفَّة فجعلت أتبعهم رجلاً رجلاً فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستأذنَّا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده، وقال: خذوا باسم الله فأكلنا منها وقال: والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئاً ترونه".

مظهر الرحمة:

إن مشاركة الفقراء والمساكين والأغنياء في طعامهم من أعظم صور المواساة، فحتى لا تذهب أنفسهم إلى أن ثمّةَّ نعيم أكثر أخبرهم بأن هذا الذي أمسى من الطعام عندهم. فهي مشاركة بالفعل، ومشاركة بالشعور، وكلُّها تصُبُّ في خلق الرَّحمة بهؤلاء.

 

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) مسلم، ح (2601)، وأحمد في المسند، ح (9801) 2/ 449.

([2]) البخاري، ح (3461).

([3]) البخاري، ح (3454).

([4])البخاري، ح (430)، ومسلم ، ح (2409).

([5]) البخاري، ح (1399)، ومسلم، ح (983).

([6]) أبو داود، ح (1522)، وما بين القوسين للنسائي في المجتبى ، ح (1303)، وصححه الألباني، صحيح الجامع الصغير، ح (7969).

([7]) البخاري، ح (1189). وهذا الحديث كان في غزوة مؤتة .

([8]) البخاري، ح (605)، ومسلم، ح (674).

([9]) المخبأة: هي الفتاة التي لم تتزوج. وجلد مخبأة: كناية عن صفاء لونه وشدة بياضه، وقوله: لبط: صرع وسقط على الأرض، لسان العرب، ابن منظور 1/62. تاج العروس، الزبيدي 20/62.

([10]) أحمد في المسند، ح (16023) 3/486، وابن ماجه، ح (3509) وصححه الألباني، صحيح الجامع الصغير، ح (4020).

([11]) البخاري، ح (5344)، ومسلم، ح (1628).

([12]) البخاري، ح (152)، ومسلم، ح (150).

([13]) الصارم المسلول، ابن تيمية، ص 199.

([14]) البخاري، ح (3694).

([15]) البخاري، ح (2512)، ومسلم، ح (788).

([16]) البخاري، ح (2512).

([17]) البخاري، ح (3829).

([18]) البخاري، ح (3833).

([19]) البخاري، ح (2706).

([20]) أي: أصابني الجهد وهو المشقة من الجوع. فتح الباري، ابن حجر 7/119.

([21]) البخاري، ح (3587)، مسلم، ح (2054).

([22]) مسلم، ح (2402)، وأحمد في المسند، ح (25378) 6/167.

([23]) أبو داود، ح (2365)، وصححه الألباني بصحيح أبي داود. وأصله بمسلم، ح (1114) من حديث ابن عباس .

([24]) أحمد في المسند، ح (15944) 3/475، وصححه شعيب الأرناؤوط.

([25]) البخاري، ح (3816)، ومسلم، ح (2296).

([26])مجموع الفتاوى 11/38.

([27]) السيرة النبوية الصحيحة ، أكرم ضياء العمري ص 266-268. والحديث عند البخاري، ح (577)، ومسلم ، ح (2057)، من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر .

([28]) البخاري، ح (6087)، ومسلم ، ح (2773).