Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة. متفق عليه

قال ابن حجر في الحديث دليل على أن لا كراهية في الصوم في السفر لمن قوي عليه ولم يصبه منه مشقة شديدة (فتح الباري)

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
muhammad

الحوار مع المخالف _أياً كان خلافه_ مطلب له أصوله، وضوابطه، وآدابه، وليس المقام ههنا مقام البحث في ذلك.

وإنما المقصود بيان شيء من هديه _عليه الصلاة والسلام_ في هذا الشأن.

فلقد كان " يحاور أصناف المخالفين من يهود ونصارى، ومشركين ومنافقين، ومسالمين ومحاربين سواء كانوا من أكابر أقوامهم، أو من عامتهم.

وكان _في ذلك كله_ يأخذ بما أدَّبه به ربه في الكتاب العزيز، كمثل قوله _تعالى_: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل:125).

وقوله _عز وجل_: [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] (العنكبوت:46).

وقوله _تبارك وتعالى_: [وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة:8).

إلى غيرها من الآيات الحاثة على العدل، والإحسان، ولو كان المخالف من ذوي الشنآن.

والسيرة العملية في حواراته مع الطبقات المخالفة ناطقة بذلك شاهدة به.

وفيما يلي بيان لذلك بشيء من التفصيل.

أولاً: حواراته مع اليهود: اليهود قوم بهت، وقبل بعثته _عليه الصلاة والسلام_ كانوا يستفتحون على الذين كفروا، ويخبرونهم بأنه سيخرج نبي، وأنهم سوف يحاربون معه، فلما جاءهم ما عرفوا من ظهور النبي" كفروا، وكذبوا هذا النبي، وآذوه، وسحروه، وهموا بقتله، وأرادوا إطفاء نوره، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون.

وكان من جملة ما قاموا به: محاولة إيقاعه في الحرج بكثرة الأسئلة، وإثارة الشبه؛ إذ كانوا أهل علم وجدل؛ فكان _عليه الصلاة والسلام_ يحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن؛ فيجيب عن أسئلتهم، وإشكالاتهم، وشبههم التي يثيرونها.

كل ذلك في غاية ما يكون من الحسنى، ولين الكلام، وقوة الحجة.

وقد مضى شيء من ذلك في فصول سابقة من هذا البحث، ومن ذلك _زيادة على ما مضى_ ما يلي:

المثال الأول: ما جاء في صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله" قال: =كنت قائماً عند رسول الله" فجاء حبر من اليهود، فقال: السلام عليكم يا محمد؛ فدفعته دفعةً كاد يصرع منها، فقال: لِمَ تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله": =إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي+.

فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله": =أينفعك شيء إن حدثتك؟+.

قال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله"بعود معه، فقال: =سل+ فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟

فقال رسول الله ": =هم في الظلمة دون الجسر+ قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: =فقراء المهاجرين+.

قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟

قال: =زيادة كبد النون+.

قال: فما غذاؤهم على إثرها؟

قال: =ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها+.

قال: فما شرابهم عليه؟ قال: =من عين فيها تسمى سلسبيلاً+ قال: صدقت.

قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل، أو رجلان، قال: =أينفعك إن حدثتك؟+ قال: أسمع بأذني.

قال: جئت أسألك عن الولد، قال: =ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا مَنِيُّ الرجل مَنِيَّ المرأةِ أَذْكَرا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأةِ منيَّ الرجل آنثا بإذن الله+.

قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف، فذهب.

فقال رسول الله ": =لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به+([1]).

فالنبي _عليه الصلاة والسلام_ كان يُلْزِم أهل الكتاب بما في كتبهم من العلم، وينعى عليهم مخالفتهم لما جاءت به رسلهم، وكانوا؛ لعلمهم بالكتاب يوجهون أسئلة تشتمل على شيء من الدقة والمعرفة وإن كانوا ضالين.

والحبر اليهودي في هذا الحديث حاور النبي" ودار في خلده أن النبي" لن يستطيع الإجابة عن أسئلته، غير أن ظنه لم يكن في محله؛ حيث أجابه النبي" عن تلك الأسئلة([2]).

كما أن في ذلك الحوار أدباً نبوياً عالياً، ألا وهو التواضع الجم؛ فالنبي" تواضع لهذا اليهودي، وتنزل في محاورته؛ حيث وافقه، ورضي منه بأن يناديه باسمه المجرد دون أن يعترف له بالرسالة؛ طمعاً في هدايته.

كما أن فيه أدباً آخر من آداب الحوار ألا وهو ترك التحاور فيما لا ينفع؛ حيث سأل النبيُّ" الحبرَ عن مدى نفع جوابه له، فقال: =أينفعك إن حدثتك؟+.

ولهذا آتى الحوار ثمرته، وانقطع اليهودي، وأقر بالنبوة للنبي".

المثال الثاني: ما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود ÷ قال: بينما أنا أمشي مع النبي " في حرث وهو متكئ على عسيب؛ إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: =ما رابكم إليه+.

وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح؛ فأمسك النبي " فلم يرد عليهم شيئاً؛ فعلمت أنه يوحى إليه؛ فقمت مقامي، فلما نزل الوحي، قال: [وَيَسْأَلُوْنََ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]+([3]).

المثال الثالث: ما جاء عن الفَلَتان بن عاصم، وذكر أن خاله قال: كنت جالساً عند النبي " إذ شَخَص بصرُه إلى رجل؛ فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي " يكلمه، وهو يقول: يا رسول الله؛ فقال رسول الله ": =أتشهد أني رسول الله؟+ قال: لا.

قال رسول الله ": =أتقرأ التوراة؟+ قال: نعم.

قال: =أتقرأ الإنجيل؟+ قال: نعم.

قال: =القرآن؟+ قال: لا، ولو تشاء قرأته.

فقال النبي ": =فِبمَ تقرأ التوراة والإنجيل أتجدني نبياً؟+ قال: =إنا نجد نَعْتَك ومخرجك؛ فلما خرجت رجونا أن تكون فينا، فلما رأيناك عرفنا أنك لست به.

قال رسول الله ": =ولِمَ يا يهودي؟+ قال: إنا نجده مكتوباً يدخل من أمته سبعون ألفاً بغير حساب، ولا نرى معك إلا نفراً يسيراً.

فقال رسول الله ": =إن أمتي لأكثر من سبعين ألفاً، وسبعين ألفاً+.([4])

ثانياً: حواراته مع النصارى: لقد كان للنبي" حوارات مع النصارى سواء كانوا أفراداً أو جماعة، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

المثال الأول: ما جاء في صدر سورة آل عمران إلى ثلاث وثمانين آية منها؛ حيث نزلت في وفد نجران من النصارى _كما يقول ابن كثير × في مطلع سورة آل عمران_.([5])

وقال × في تفسير قوله _تعالى_: [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] (آل عمران: 61).

قال: =وكان سبب نزول هذه المباهلة، وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران, أن النصارى لما قدموا؛ فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البُنُوَّة والإلهية؛ فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم.

قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقدم على رسول الله" وفد نصارى نجران ستون راكباً, فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح, والسيد وهو الأيهم, وأبو حارثة ابن علقمة أخو بكر ابن وائل, وأويس بن الحارث, وزيد, وقيس, ويزيد وابناه, وخويلد, وعمرو, وخالد, وعبدالله, ومحسن, وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم:

العاقب: وكان أميرَ القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم, والذي لا يصدرون إلا عن رأيه.

والسيد: وكان عالِمَهُمْ وصاحبَ رحلهم ومجتمعهم.

وأبو حارثة بن علقمة: وكان أسقفهم وصاحب مدارستهم, وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل, ولكنه تنصر؛ فعظمته الروم وملوكها، وشرَّفوه, وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم, وقد كان يعرف أمر رسول الله" وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكنْ حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية؛ لما يرى من تعظيمه فيها، وجاهه عند أهلها.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير, قال: قدموا على رسول الله" المدينة, فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر, عليهم ثياب الحبرات جُبَبٌ وأرديةٌ في جمال رجال بني الحارث بن كعب, قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي": ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم؛ فقاموا في مسجد رسول الله " فقال رسول الله ": =دعوهم+ فَصَلَّوا إلى المشرق, قال: فَكَلَّم رسولَ الله" منهم أبو حارثة بن علقمة, والعاقبُ عبدُ المسيح, والسيدُ الأيهم، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله, ويقولون: هو ولد الله, ويقولون: هو ثالث ثلاثة _تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً_.

وكذلك النصرانية, فهم يحتجون في قولهم هو الله, بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام, ويخبر بالغيوب, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً, وذلك كله بأمر الله، وليجعله الله آية للناس, ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم, وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله, ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله _تعالى_: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا.

فيقولون: لو كان واحداً، ما قال إلا: فعلت، وأمرت، وقضيت، وخلقت, ولكنه هو وعيسى ومريم _تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً_.

وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القرآن, فلما كلمه الحبران, قال لهما رسول الله": =أسلما+، قالا: قد أسلمنا.

قال: =إنكما لم تسلما فأسلما+، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك.

قال: =كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير+.

قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله " عنهما فلم يجبهما, فأنزل الله في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.

ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله " الخبر من الله، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك, فقالوا: يا أبا القاسم, دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه, ثم انصرفوا عنه, ثم خلوا بالعاقب, وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل, ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم, ولقد علمتم أنه ما لاعن قَوْمٌ نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم, وإنه لَلاستئصال منكم إن فعلتم, فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم, فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم, فأتوا النبي" فقالوا: يا أبا القاسم, قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا, فإنكم عندنا رضا.

قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله ": =ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين+.

فكان عمر بن الخطاب ÷ يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت إلى الظُّهر مهجراً, فلما صلى رسول الله" الظهر, سلم ثم نظر عن يمينه وشماله, فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره، حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه, فقال: =اخرج معهم؛ فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه+.

قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة ÷.

وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن رافع بن خديج: أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله", فذكر نحوه, إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر, وذكر بقيته بأطول من هذا السياق, وزيادات أخر.([6])

فهذا شيء من حواراته مع النصارى، ونلاحظ فيها قوة الحجة، وجمال الحق، وشدة التأثير والإقناع.

ولولا أن أولئك النفر من النصارى كانوا أهل هوى وإيثار للدنيا على الآخرة لأسلموا وأذعنوا.

ولكنهم أصروا على كفرهم مع وضوح الحق، وعلمهم بذلك.

ولو كانوا على يقين من أمرهم لباهلوا النبي".

قال ابن القيم× في معرض حديث له عن ذكر فوائد تلك القصة: =ومنها جواز مجادلة أهل الكتاب، ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامُه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة؛ فليولِّ ذلك إلى أهله، وليخلِّ بين المطي وحاديها، والقوس وباريها+([7]).

المثال الثاني: ما جاء في قصة قدوم عدي بن حاتم الطائي ÷: يقول ابن هشام×: =وأما عدي بن حاتم فكان يقول فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله " حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرأً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع([8]) فكنت في نفسي على دين وكنت ملكاً في قومي، لما كان يُصنع بي.

فلما سمعت برسول الله " كرهته، فقلت لغلام كان لي عربيٍّ، وكان راعياً لإبلي: لا أبا لك، أعْدُدْ لي من إبلي أجمالاً ذُلُلاً سماناً، فاحْتَبِسْها قريباً مني؛ فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني; ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي، ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن؛ فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد.

قال: فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام؛ فسلكت الجوشية، ويقال الحوشية فيما قال ابن هشام وخلفت بنتاً لحاتم في الحاضر فلما قدمت الشام أقمت بها+([9]).

ويواصل ابن هشام الكلام على خبر قدوم عديٍّ، وأَسْرِ أُخْته سَفَّانة، فيذكر عن عدي قوله: =وتخالفني خَيْلٌ لرسول الله "فتصيبُ ابنةَ حاتم فيمن أصابت فَقُدِمَ بها على رسول الله " في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله " هربي إلى الشام.

قال: فَجُعِلَتْ بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله " فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلَةً، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد؛ فامنن عليَّ من الله عليك.

قال: =ومن وافدك؟+ قالت: عدي بن حاتم، قال: =الفارُّ من الله ورسوله؟+.

قالت: ثم مضى رسول الله " وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس.

قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرَّ بي وقد يئست منه، فأشار إليَّ رجل من خلفه أَنْ قُوْمِيْ؛ فكلميه قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد؛ فامنن عليَّ من الله عليك، فقال ": =قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك مَنْ يكون لك ثقة؛ حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني+.

فسألت عن الرجل الذي أشار إليَّ أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب _رضوان الله عليه_ وأقمت حتى قدم ركب من بَلِي أو قُضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام.

قالت: فجئت رسول الله " فقلت: يا رسول الله ! قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ.

قالت: فكساني رسول الله " وحَمَلَني، وأعطاني نفقةً، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينة([10]) تصوب إليَّ تؤمُّنا، قال فقلت: ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي.

فلما وقفت عليَّ انسحلت([11]) تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك _عورتك_.

قال قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيراً؛ فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت.

قال ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها _ وكانت امرأة حازمة _: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليُمْن، وأنت أنت.

قال قلت: والله إن هذا الرأي.

قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله " المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه فقال من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله" فانطلق بي إلى بيته؛ فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته؛ فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال قلت في نفسي: والله ما هذا بملك ! قال: ثم مضى بي رسول الله " حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوةً ليفاً فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قال قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله " بالأرض، قال قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك ! ثم قال: =إيه يا عدي ابن حاتم ألم تك ركوسياً؟+ قال قلت: بلى.

قال: =أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟+ قال قلت: بلى.

قال: =فإن ذلك لم يكن يَحِلُّ لك في دينك+ قال قلت: أجل والله.

وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجهل، ثم قال: =لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم؛ فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد مَنْ يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم؛ فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تَسْمَعَ بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم+ قال: فأسلمت.

وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان، وبقيت الثالثة والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه+([12]).

فهذا نموذج رائع من حواراته " مع النصارى؛ حيث منَّ على سفانة أخت عدي بعد حواره معها؛ فأطلق سراحها، وكساها، وأعطاها نفقة.

ثم إن في حوارات النبي " عدياً ÷ لفتاتٍ رائعةً في موضوع الحوار، وأصوله، وآدابه؛ حيث أحسن _عليه الصلاة والسلام_ استقبال عدي، وأنزله منزلته اللائقة به؛ فَقَرَّب إليه الوسادة؛ لعلمه بأنه سيد قومه؛ فكان لذلك أثره في نفس عدي، ثم حاوره في دينه، وما كان عليه من أخذ المرباع، فكان لذلك _أيضاً_ أثره في نفس عدي؛ إذ أدرك أن هذا النبي لا يتكلم إلا عن علم ويقين.

وفي نهاية المحاورة رَغَّبه النبي " بالإسلام، وحدَّثه عما سيكون في مستقبل الأيام؛ فكان ذلك أقوى الدوافع لإسلام عديٍّ؛ فأسلم ورأى مصداق ما أخبره به النبي ".

ثالثاً: حواراته " مع المنافقين: لقد لقي النبي _عليه الصلاة والسلام_ من المنافقين ما تشيب منه النواصي من المواقف الدنيئة، والأفعال الساقطة.

ومع ذلك فقد كان _عليه الصلاة والسلام_ يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من المسلمين من الرحمة، والرفق، ومعاملة الإساءة بالعفو، أو الإحسان.

وكان يحاورهم بألطف المحاورة، ويحملهم على ظواهرهم، دون بحث عما تكنه سرائرهم، وتنطوي عليهم دخائل نفوسهم.

ويشهد لذلك حوادث كثيرة، ولعل أجلاها ما كان من أمره مع رأس المنافقين عبدالله بن أُبَي بن سلول، وإليك طرفاً من ذلك.

جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد، أن نبي الله " ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث من الخزرج، قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلسٍ فيه عبد الله بن أبي قبل أن يسلم عبد الله ابن أبي _أي: يتظاهر بالإسلام_ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غَشِيَتِ المجلسَ عجاجةُ الدابةِ خَمَّر عبدُالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله " عليهم، ثم وقف؛ فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله ابن أبي بن سلول: أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال: عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله؛ فاغشنا به في مجالسنا؛ فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون، والمشركون، واليهود؛ حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي " يُخَفِّضُهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي " دابته، حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي": =يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب _يريد عبد الله بن أبي_ قال: كذا وكذا+.

قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! اعف عنه واصفح؛ فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة _أي: البلدة، وهي يثرب التي صارت المدينة وطيبة_ على أن يتوِّجوه، فَيُعَصِّبوه بالعصابة _أي: يتوجوا عبدالله بن أبي ملكاً عليهم_ فلما أبى الله ذلك، فاتت الفرصة على عبد الله ابن أُبَي، وفاته الملك للإسلام الذي جاء؛ فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ بذلك _أي: غص به وكرهه_ فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله".([13])

فهذا الحديث من أعظم ما يكون من أمثلة التعامل مع المخالف.

ولو أراد باحث أن يستقصي ما فيه مما يتعلق بالحوار لطال به المقام؛ فانظر كيف اسْتُقْبِلَ _عليه الصلاة والسلام_ بذلك الاستقبال الفاتر الذي لا يليق بأحط الناس؛ فكيف بخير الناس؛ حيث غطى ابن أبي أنفه بردائه؛ إشارة إلى الكراهية.

ولم يكتف بذلك، بل قال: =لا تغبروا علينا+ فاجتمع في الإساءةِ إشارةُ اليد، وإطلاقُ اللسان.

ولم ينل ذلك الموقف نيله من النبي _ عليه الصلاة والسلام_ بل سلَّم عليهم؛ فلم يقابل إساءتهم إلا بالإحسان، ثم وقف، وتواضع؛ فنزل عن دابته، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، ثم أعطى الفرصة لمحاوريه، فتقدمهم عبدالله بن أبي، فقال بكل صفاقة وشك: =أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك؛ فمن جاءك فاقصص عليه+.

فقد نادى النبيَّ " بنداء المُنْكِر له ولنبوته؛ فقال: =أيها المرء+.

ولم يقل: يا نبي الله، أو يا أبا القاسم، أو يا محمد.

ثم أي أذية سوف تنالهم من حديث هذا النبي الأكرم حتى يقول ابن أبي: =فلا تؤذنا به+؟

وبعد أن اسْتَبَّ المجلس، وكادوا يتقاتلون صار _عليه الصلاة والسلام_ يخفضهم بلهجته الهادئة الرحيمة حتى سكنوا، وزالت عنهم سورة الغضب.

ثم لما لم يجد للحوار قيمة بعد ذلك ركب دابته، وانصرف.

وهل وقف الأمر عند هذا؟ لا، بل إنه لما دخل على سعد بن عبادة قال _عليه الصلاة والسلام_: =يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو حباب _يريد عبدالله بن أبي_ قال: كذا وكذا+.

فتأمل هذا الأدب الرفيع، وهذه النفس الكبيرة، وذلك القلب المفعم بالحب، والعدل، والإحسان؛ لم يقل: ألم تسمع ما قال ذلك الأشقى، أو الألد، أو غيرها من الألفاظ التي تليق بعبدالله بن أبي، بل لم يُسَمِّه باسمه المجرد، ولم يقل: ابن أبيٍّ، وفي ذلك عدل، وإقساط.

وإنما ارتقى؛ ليفصح عما هو أعظم من ذلك، وليبين مدى تسامحه، ورقته، ورأفته، وسلامة صدره، وترفعه؛ فَكَنَّاه بكنيته وقال: =أبو حباب+.

والتكنية المحببة إلى الإنسان هي مما يسره؛ ولا يقولها من في نفسه غضب أو غضاضة، ومع ذلك كناه بكنيته المحببة إليه، مع أن ابن أبيَّ ناداه بـ: يا أيها المرء _كما مر_.

ثم تأمل ما كان من ذلك السيد الألمعي الصحابي الجليل سعد بن عبادة؛ حيث لمح تأثر النبي" وأدرك سَعَةَ نفسه، وكِبَرَ قلبِه بتكنيته ابن أبي، فأراد تسليته، وطلبَ العفو منه؛ فطابت نفسه _عليه الصلاة والسلام_ وعفا عن ابن أبي.

وهل صار لذلك الحوار، وتلك الإساءة من ابن أبي أثر في نفس النبي" وهل قطع إحسانه عنه؟ أو جعلها ذريعة للوقيعة فيه؟.

وهل توقف ابن أبي عن مخازيه؟ لا؛ فهو الذي آذى النبي أيما أذية؛ حيث آذاه في بيته كما في قصة الإفك _ فهو الذي تولى كبره، وأشاع قالة السوء عن عائشة _رضي الله عنها_.

وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي"في أحرج أوقاته، وهو الذي قال _كما أخبر الله عز وجل عنه_: [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] (المنافقون:8).

وهو صاحب المواقف المشهورة بالخزي والشنار.

هذا الرجل الذي كان من شأنه ما كان لما مات طلب ابنُه من النبي قميصه؛ ليكفنه فيه؛ تطهيراً له؛ فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين !

أرأيت أكرم من هذا الصنيع؟ وهل وقف الأمر عند هذا الحد؟

لا، بل مشى _ عليه الصلاة والسلام _ إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب ÷ وقال: أتصلي على ابنِ أُبَيٍّ وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ يعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله" وقال: =أخِّر عني يا عمرُ+.

فلما أكثر عليه قال: =إني خيِّرت فاخترت؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها+.

وذلك إشارة إلى قوله _تعالى_ في المنافقين: [اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ] (التوبة:80).

ففي الخيار بين أن يستغفر أو لا يستغفر نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه.

قال عمر بن الخطاب في نهاية الحديث: =فصلى عليه رسول الله " ثم انصرف؛ فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: [وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)] (التوبة).

قال: فعجبت بَعْدُ من جرأتي على رسول الله " يومئذٍ، والله ورسوله أعلم+.([14])

فهذه مواقفه مع زعيم المنافقين؛ فما ظنك بمن دونه؟

ولا ريب أن لتلك الحوارات والمواقف أثرها البالغ على الموافق والمخالف؛ فالموافق يأخذ العبرة؛ فيصبر على جفاء المسيء، وينتظر حسن العاقبة.

والمخالف يُقْصِر عن التمادي، ويراجع نفسه، وربما رجع عن غيه؛ لأن النار إنما تُذكى بالعودين.

والمتأمل للسيرة النبوية يلحظ أن النبي" لم يكن ليستعديَ أحداً من الناس كائناً من كان، بل كان يخطب الود في كافة حواره، وفي أي فرصة تسنح له.

رابعاً: حواراته مع المشركين: لقد خرج _عليه الصلاة والسلام_ في بيئة عم فيها الشرك، والتقرب للأوثان؛ فكانت قبيلة قريش على الشرك.

وقد جاء بتلك الدعوة الطاهرة التي تأمر الناس بتوحيد الله، وتنهاهم عن الشرك به؛ فما كان من أولئك القوم إلا أن كذبوه، وناصبوه العداء؛ فكان يعفو، ويصفح، ويلقاهم بالجميل، ويعرض عليهم الدعوة بوضوح وجلاء.

ومما كان يأخذ به إبان دعوته _ مبدأ الحوار، فكان يبتدرهم بالحوار، وكان يجيب عن إشكالاتهم، وكان ينصت لهم، ويصغي لما يقولون، ويأخذ بكل ما تقتضيه أصول الحوار وآدابه.

وقد مر في فصول ماضية نماذج من ذلك، ومن أجلاها حواره العظيم مع زعيم من زعماء قريش وهو عتبة بن ربيعة.

ومما كان يأخذ به حال حواره معهم أنه يحسن استقبالهم، ويرغِّبهم في الإسلام، ويُقبل على من يرغب بالدخول فيه، ويشعرهم بعظيم مغفرة الله، وجزيل ثوابه، وعفوه عما سلف.

وإذا دخلوا في الإسلام لم يذكرهم بماضيهم، وما كان منهم قبل الإسلام؛ فالعبرة عنده بكمال النهاية لا بنقص البداية.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومن أجلاها ما يلي:

أ_ ما جاء في قصة الصحابي الجليل عمرو بن العاص÷ وهو في سياق الموت؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن شِمَاسة المَهْرِي قال: حَضَرْنا عَمْرَو ابن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله" بكذا، أما بشرك رسول الله " بكذا؟

قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نُعِد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ إني قد كنت على أطباق ثلاثٍ: لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدّ بغضاً لرسول الله " مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مُتُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي " فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: =ما لك يا عمرو؟+.

قال: قلت: أردتُ أن أشترط، قال: =تشترط بماذا؟+.

قلت: أن يُغْفَر لي، قال: =أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله+.

وما كان أحد أحبّ إلي من رسول الله " ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأَ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطَقْتُ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مُتُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم وَلِينَا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مُت فلا تَصْحَبْني نائحةٌ، ولا نارٌ، فإذا دفنتموني فشنوا عليَّ التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قَدْرَ ما تُنحر جزور ويُقسم لَحْمُها؛ حتى أسْتَأْنِسَ بكم، وأنظر ماذا أراجعُ رسلَ ربي+.([15])

والشاهد ههنا ما كان في حوار عمروٍ للنبي " لما أراد الدخول في الإسلام وذلك عندما قال: فقبضت يدي، فقال الرسول ": =مالك يا عمرو+؟

فإن عمرواً ههنا توقف، وأراد أن يعرف مصير أعماله التي سلفت منه في الكفر؛ فاشترط أن يغفر له.

فما كان من النبي" إلا أن أقبل عليه، ورغَّبه في الإسلام، وبَشَّره بأعظم مما كان يتصور، وبيَّن له أن الإسلام، والهجرة، والحج كل أولئك يهدم ما قبله؛ فكان ذلك دافعاً لإقبال عمرو على الإسلام.

ولما أسلم عمرو، وحسن إسلامه كان من أكابر الصحابة، وكان النبي" يُدْنيه، ويتطلَّق له، ولا يذكِّره بماضيه؛ فملكت تلك المعاملةُ شِغَافَ قلب عمرو، فانقلبت تلك البغضة إلى محبة، بل إنه _كما يقول_ لا يستطيع وصف رسول الله؛ لأنه لم يملأ عينيه منه؛ إجلالاً له.

وهكذا ملك _ عليه الصلاة والسلام _ قلب هذا الرجل الداهية العظيم، وإنما ملكه بحسن حواره، ولطف معاملته؛ فصار أحب الناس إليه.

ب _ ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك÷ قال: نهينا أن نسأل رسول الله" عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية؛ فيسأله، ونحن نسمع، فأتاه رجل منهم، فقال: يا محمد، أتانا رسولك؛ فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: =صدق+.

قال: فمن خلق السماء؟ قال: =الله+.

قال: فمن خلق الأرض؟ قال: =الله+.

قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: =الله+.

قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: =الله+.

قال: فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها هذه المنافع، الله أرسلك؟ قال: =نعم+.

قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: =صدق+.

قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال: =نعم+.

قال: وزعم رسولك أن علينا صدقة في أموالنا؟ قال: =صدق+.

قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال: =نعم+

قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا؟ قال: =صدق+.

قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال: =نعم+.

قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً؟ قال: =صدق+.

قال: فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا؟ قال: =نعم+.

قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن.

فلما مضى، قال: =لئن صدق، ليدخلن الجنة+([16]).

وهكذا اتسع صدر النبي" لهذا السائل وهو ضمام بن ثعلبة، وأجابه عن أسئلته كلها بحلم، وصبر، وعلم؛ فكانت سبباً لدخول ضمام في الإسلام.

ج _ ما كان منه _عليه الصلاة والسلام_ في فتح مكة؛ فالنبي " لا يتخلى عن عادته الجميلة، وأخلاقه الكريمة في الحوار حتى في حال الحرب، التي _غالباً_ ما يزهو فيها المنتصر، ويحاور خصومه بلغة التعالي، والشماتة، والفخر، والإعجاب بالنفس.

وإذا أردت مثالاً يثبت فؤادك فانظر إلى ما كان منه _عليه الصلاة والسلام_ يوم فتح مكة الذي حصل بعد صراع مرير، وبعد أن فعلت قريشٌ بالنبي" وأصحابه ما فعلوا.

فعندما انتصر عليهم، وأحاط بهم إحاطة السِّوار بالمِعْصم، وظنت قريش الظنون؛ لعلمهم بسوء صنيعهم السابق، وحسبوا أنه سيدخل مكة دخول الجبابرة والطغاة مزهواً منتقماً _ فاجأهم بأن جاء متواضعاً متخشعاً لربه، غير مَزْهوٍّ بنصره، ولا شامت بأعدائه.

وعندما رأى قريشاً وهم يتوقعون الإجهاز عليهم، ورأى جموع الصحابة وهم يتلمظون تَلَمُّظَ الحيَّات وهم ينتظرون أدنى إشارة منه حتى يبيدوا خضراء قريش _ قال النبي _عليه الصلاة والسلام_ مخاطباً قريشاً: =ما تظنون أني فاعل بكم+؟

قالوا: أخ كريم وابن أخٍ كريم.

قال: =فاذهبوا فأنتم الطلقاء+.([17])

أين هذا الحوار الراقي من كثير مما نراه في حروب اليوم، من الغطرسة، والكبر، وظلم الضعفاء، وإذلالهم؟!

خامساً: حواراته مع الزعماء والملوك: لقد كان _عليه الصلاة والسلام_ يدعو الناس جميعاً إلى دين القَيِّمة.

ومن أولئك الناسِ الزعماءُ والملوك؛ فقد كان يحاورهم بالتي هي أحسن، إما حواراً مباشراً، أو عبر الكتب التي يكاتبهم بها، أو يرسل إليهم رسلاً، ويعلمهم كيف يحاورون أولئك.

وكان في ذلك كله يأخذ بالحكمة مع أولئك؛ فيحاورهم بما يليق بهم من مراعاة أحوالهم، وتنزيلهم منازلهم، ومخاطبتهم بما هو أدعى لهدايتهم، وأقرب إلى جلب المصالح للمسلمين، ودفع الغوائل عنهم.

وقد مر في فصول مضت شيء من ذلك كما في مكاتباته لهرقل عظيم الروم، وكما في حواره مع ثمامة بن أثال _وهو من زعماء قومه_ وكما في حواره مع عدي بن حاتم.

قال ابن القيم × في فصل من فصول كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: =فصل في كتبه ورسله " إلى الملوك+.

قال: =لما رجع من الحديبية كتب إلى ملوك الأرض، وأرسل إليهم رُسَلَه، فكتب إلى ملك الروم، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً؛ فاتخذ خاتماً من فضة، ونقش عليه ثلاثة أسطر، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع+. ([18])

ثم شرع ابن القيم × في تفصيل ذلك، وبيَّن ما دار بين أولئك الرسل الذين بعثهم النبي " ومن أرسلوا إليه من الملوك، وأن أوَّلَ أولئك الرسل عمرو بن أمية الضمري بعثه النبي " إلى النجاشي؛ فعظم كتاب النبي" وأسلم، وشهد شهادة الحق.

وثاني أولئك الرسل: دحية الكلبي الذي بعثه إلى قيصر ملك الروم، وقد مضى الحديث عنه، وأنه همَّ بالإسلام، وكاد ولم يفعل.

وثالثهم: عبدالله بن حذافة السهمي الذي بعثه إلى كسرى؛ فمزق كتاب النبي" فمزق الله ملكه، وملك قومه.

ورابعهم: حاطب بن أبي بلتعة بعثه إلى المقوقس، واسمه جريج بن ميناء، ملك الإسكندرية، عظيم القبط، فقال: خيراً، وقارب الأمر، ولم يسلم، وبعث إلى النبي" بهدايا.

وخامسهم: شجاع بن وهب الأسدي بعثه إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني ملك البلقاء.

وسادسهم: سليط بن عمرو إلى هَوْذَة بن علي الحنفي باليمامة+.

ثم تكلم ابن القيم × عن آخرين أرسلهم النبي " إلى ملوك وزعماء آخرين في كلام يطول ذكره، وليس هذا مجال بسطه، وإنما المقصود به الإشارة إلى أن النبي" لم يهمل تلك الطائفة من الناس من حواره، بل جعل لها الاهتمام الأكبر؛ لعلمه بأن هداية أولئك سيترتب عليها خير كثير، وسيدفع بسببها شر مستطير.([19])

وبالجملة فإن محاوراته مع المخالفين عموماً يطول وصفها، وقد اعتنى المُحَدِّثون، وأهل السير، والفقهاء بتلك المعاملات مع المخالفين من الذميين، أو المستأمنين، أو المحاربين أو غيرهم، والمقام ليس مقام بسط لذلك.([20])

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] _ مسلم (315).

[2] _ انظر تاريخ الجدل للشيخ محمد أبو زهره ص49، والحوار للمغامسي ص141.

[3] _ البخاري (125 و 4721 و 7297 و 7456 و 7462) ومسلم (2794).

[4] _ ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/407 _ 408 وقال: =رواه البزار، ورجاله ثقات+.

وكذا ذكره ابن كثير في صحيح السيرة النبوية ص74 _ 75 وقال: =هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه+.

وقال الألباني في صحيح السيرة النبوية لابن كثير ص75: =إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات+.

[5] _ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/551.

[6]_ انظر تفسير ابن كثير 1/551_552، وانظر صحيح البخاري (4380 و 4381) ومسلم (2420).

[7]_ زاد المعاد 3/639.

[8]_ أي آخذ ربع الغنيمة، وكذلك كان يفعل الرؤساء في الجاهلية.

[9]_ السيرة النبوية لابن هشام 4/166_167.

[10]_ الظعينة: المرأة في الهودج.

[11]_ انسحلت: أخذت تلوم.

[12]_ السيرة النبوية 4/167_168.

[13] _ البخاري (4566) ومسلم (1798).

[14] _ انظر صحيح البخاري (1366).

[15] _ مسلم (121).

[16] _ البخاري (63) ومسلم (12).

[17] _ انظر سنن البيهقي الكبرى 9/118، وفتح الباري لابن حجر 8/18.

وما مضى من أحكام الحرب وآدابها إنما هو نزر يسير مجمل، أما تفاصيل ذلك، واستثناءاته وأحكامه فهي مبثوثة في التفاسير، وكتب الفقه، وشروح الحديث، والكتب التي أفردت في الحرب، والجهاد وما إلى ذلك.

انظر المبسوط للسرخسي 10/5، وشرح فتح القدير لابن الهمام 4/90، والمغني لابن قدامة 9/326، وروضة الطالبين للنووي 10/150، وآداب الحرب في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين، وقواعد الحرب في الشريعة الإسلامية للشيخ عواض الوذيناني.

[18] _ زاد المعاد 1/119.

[19] _ انظر تفصيل ذلك في زاد المعاد 1/119_124.

[20] _ انظر المبسوط للسرخسي 10/5، وشرح فتح القدير لابن الهمام 4/90، وروضة الطالبين للنووي 10/150، والفروق للقرافي 3/14، وآداب الحرب للشيخ محمد الخضر حسين، وأهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي لنمر محمد الخليل ص127_161، وأهل الذمة في الحضارة الإسلامية لحسن المِمِّي ص101_105، وحقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية د. علي الطيار.