Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          رفقه بالضعفاء

عن أنس (رضي الله عنه   قال: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي  صلى الله عليه وسلم  وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه] متفق عليه

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
Rahiyma

وأردف الأب ستيفانو: ثم ماذا علّم محمد الناسَ في مدرسته من أبواب الرحمة؟

قلت: لقد علَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناس في مدرسته الرحمةَ بالأعداء. فقد بدأت عداوات الناس له بالظهور، منذ أعلن رسالته في قومه ودعاهم إلى الإسلام، فآمن له القليل منهم بادئ الأمر، ورفضه الأكثرون والسادة.. وصار هؤلاء يكيدون له ويعذبون من آمن به ليفتنوهم عن دينهم، ولقي منهم ما لقي.. حتى اضطر لأن يأمر من آمنوا به، بالهجرة من مكة فراراً بدينهم. فهاجروا إلى الحبشة، الهجرة الأولى والهجرة الثانية.. ثم هاجر هو ومن بقي معه، من مكة إلى المدينة.. كل هذا للعداوة اللدود التي واجهه بها المشركون[1].

وهكذا تكاثر أعداء رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. لا لشيء، سوى أنه كان يدعوهم إلى توحيد وعبادة الله سبحانه! وصار هؤلاء الأعداء يكيدون له ويحاولون قتله إن استطاعوا!! حتى أن بعض أصحابه صاروا يتناوبون حراسته أول هجرته، خوفاً عليه من تدبير أعدائه المكائدَ له.. إلى أن أمرهم بعدم حراسته! قالت زوجته السيدة عائشة: «كان (صلى الله عليه وسلم) يُحرس حتى نـزلت هذه الآية ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[2] فأخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأسه من القُبَّة فقال لهم: يا أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله»[3].

* * *

وأردفتُ: أتدري أيها الأب ستيفانو كيف كان ردُّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على العداوات التي أحاطت به؟.

قال: كيف كان ردُّه؟.

قلت: بعد كل ما أنـزله المشركون بأتباعه المؤمنين من عذاب.. قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: «إني لم أُبعث لعَّاناً، وإنما بعثت رحمة»[4].

وكرَّرتُ: «إنما بعثت رحمة».

فقال بإعجاب: لم يرضَ أن يلعن أعداءه! هكذا تكون الرحمة!

قلت: بل أكثر من هذا.

قال: وما ذاك؟.

قلت: عندما اشتد رفض المشركين له، وأمعنوا في إيذائه.. جاءه الوحي يعرض عليه الانتقام له منهم وإهلاكهم. فكان جوابه: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً»[5].

فبادر الأب ستيفانو مكرراً إعجابه قائلاً: أوَّاهٌ[6]حليم! لقد تعدَّت رحمته أعداءَه إلى ذريَّاتهم!

قلت: أجل، لقد رحمهم، إن لم يكن لأجلهم فلأجل ذريَّاتهم!

وأردفت: بل هو كان يدعو لهم ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»[7].

فقال الأب ستيفانو مردداً بتواضع وهدوء: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»!! ألا ما أجمل هذا التعبير الصادق عن مكنونات النفس الرحيمة!.

قلت: ولقيه ذات مرة في مكة - قبل الهجرة - سيد قبيلة (دَوس)، فدعاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى الإيمان بالله وحده، فآمن الرجل وعاد إلى قبيلته يدعوهم إلى الإيمان، فرفضوا، فعاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال له: يا رسول الله إن دَوساً عصتْ وأبتْ فادعُ الله عليها. فرفع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يديه ليدعو. فظن الناس أنه يدعو عليهم. فقال: «اللهم اهدِ دَوساً وأْتِ بهم!»[8].

فقال الأب ستيفانو بإعجاب: سيدهم استاء منهم، ومحمد رحمهم! إنها النبوَّة!.

قلت: وحدَّث عنه الصحابي جابر بن عبد الله قال: «غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غزوة نجد، فلما أدركته القائلة - أي حَر الظهيرة - وهو في واد كثير العضاه - نوع من الشجر - فنـزل تحت شجرة واستظل بها، وعلَّق سيفه. فتفرق الناس في الشجر يستظلون. وبينا نحن كذلك، إذ دعانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه.فقال: إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتاً. قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه[9] ثم قعد. فهذا هو. قال: ولم يعاقبه»[10].

فقال الأب ستيفانو معلِّقاً: لو حدث مثل هذا مع زعيم من زعماء الدنيا، لعقد لهذا الأعرابي محكمة عسكرية على وجه السرعة، فأصدرت عليه الحكم بالإعدام فوراً، هذا إن لم يقتله بلا محاكمة!.

قلت: ولما توفي عدوُّه الداخلي، زعيم المنافقين (عبد الله بن أُبَيّ بن سلول) «جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فسأله أن يعطيه قميصه يكفِّن فيه أباه، فأعطاه إياه. ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ليصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوب رسول الله فقال: يارسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنما خيَّرني الله فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ﴾[11]، وسأزيد على سبعين. قال عمر: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)»[12].

قال الأب ستيفانو: إنها لرحمة حكيمة، تؤلف القلوب، وتصفِّي النفوس.

قلت: أجل، لقد كان يرحم أعداءه رحمة ذات جدوى، يعود نفعها عليهم.. فقد روى صاحبه أبو هريرة قال: «بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يُقال له (ثُمامة بن أثال) - هو سيد أهل اليمامة - فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: ما عندكَ يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن كنتَ تريد المال فسل منه ماشئت.

فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: ما عندكَ يا ثمامة؟ فقال: ما قلتُ لك: إن تُنعِم تُنعِم على شاكر.

فتركه حتى كان بعد الغد. فقال له: ما عندكَ يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلتُ لك. فقال: أطلقوا ثمامة.

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صَبَوتَ؟- أي غيَّرتَ دينك - قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) »[13].

قال الأب ستيفانو: إن هذا الخبر أيضاً، ليؤكد لي أن محمداً لم يكن فقط رحيماً، بل كان عاقلاً حكيماً رحيماً.

قلت: هو ما تقول، لكن إن أردت أن تتثبت أكثر، من صحة حكمك هذا، فتعال معي نتعرف على رحمة محمد بأعدائه عندما وصلت الذروةَ يوم فتح مكة، إذ تلاقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجهاً لوجه بألدِّ أعدائه خصومةً، وهم مشركو قبيلة قريش، الذين أنـزلوا به وبأصحابه من ألوان الأذى والتعذيب ما سبق أن أشرتُ إليه..

لم يلقَهم (صلى الله عليه وسلم) يوم ذاك لقاء الند للند، بل لقيهم لقاء الغالب للمغلوب.. لقاء المنتصر الذي تمكن من عدوِّه حتى ألقى عدوُّه السلاح مستسلماً.. وكان من حق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومها أن ينتقم.. وكان بعض أصحابه المقربين منه وعلى رأسهم عمر بن الخطاب يتوقعون الانتقام، لأنهم كانوا يعرفون الجرائم التي ارتكبها هذا العدو بحق محمد (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين معه.. وانتقم رسول الله! أتدري كيف كان انتقامه؟.

فقال بتلهف: كيف كان ذلك؟.

قلت: كان انتقامه من ألدِّ أعدائه خصومةً له، بأن عفا عنهم جميعاً!

قال: عفا عنهم! كيف! وكبار أصحابه يتوقعون الانتقام؟.

قلت: سأحدثك حديث فتح مكة، وكيف علَّم (صلى الله عليه وسلم) تلاميذه يومذاك، الرحمة بالأعداء.

قال: لكن من النصوص الأصلية.

قلت: لك ما تريد. حدَّث ابن عباس قال: «خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - لفتح مكة - لعشرٍ مضين من رمضان.. في عشرة آلاف من المسلمين، من مُزَينَة وسُليم، وفي كل القبائل عَدد وإسلام. وأوعبَ مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المهاجرون والأنصار - أي خرجوا جميعاً - فلم يتخلف منهم أحد.

فلما نـزل (صلى الله عليه وسلم) (مرَّ الظهران)[14] وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خبر، ولا يدرون ما هو فاعل؟! خرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء[15]، يتحسسون وينظرون، هل يجدون خبراً أو يسمعون به؟

وقد كان العباس بن عبد المطلب أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ببعض الطريق. وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)[16] أيضاً فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلَّمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله،ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي - إشارة إلى هجاء أبي سفيان هذا له في شعره – وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي قال لي بمكة ما قال - إشارة إلى اشتراك عبد الله بن أبي أمية هذا في مخاصمة قريش له واتهامها إياه بمختلف الاتهامات - فلما أُخرج إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بُنَيٌّ له، فقال: والله ليأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيد ابني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) رقَّ لهما، ثم أذن لهما، فدخلا وأسلما[17].

فلما نـزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (مَرَّ الظهران) قال العباس: واصباح قريش! والله لئن دخل رسول الله عنوةً قبل أن يستأمنوه،إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فجلستُ على بغلة رسول الله البيضاء، فخرجتُ عليها حتى جئتُ الآراك فقلتُ: لعلّي ألقى بعض الحطَّابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة ليخبرهم بمكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له،إذ سمعت كلام أبي سفيان وبُديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً. قال: يقول بُديل:هذه والله نيران خزاعة حمشتها - أحرقتها - الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة! فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت:نعم. قال: مالك فداك أبي وأمي؟! فقلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الناس، واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أستأمنه لك. قال: فركب خلفي، ورجع صاحباه، فحرّكتُ به، كلما مررتُ بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله قالوا: عمُّ رسول الله على بغلته، حتى مررتُ بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي. فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وركضتُ البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجلَ البطيء، فاقتحمت عن البغلة، فدخلتُ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودخل عمر، فقال: يا رسول الله! هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه. قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته. ثم جلستُ إلى رسول الله صلى الله عليه فأخذت برأسه فقلت: لا والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني. فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلتَ هذا، ولكنك عرفت أنه رجل من رجال بني عبد مناف. قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمتَ كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): اذهب به إلى رَحلِك يا عباس فإذا أصبح فائتني به. فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوتُ به إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟. قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأحلمك وأوصلك! والله لقد ظننتُ أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً. قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟! قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! هذه – والله - كان في نفسي منها شيء حتى الآن. قال العباس: ويحك يا أبا سفيان! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يُضرب عنقُك. قال: فشهد بشهادة الحق وأسلم. قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

فلما ذهب لينصرف، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها.

قال: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أحبسه. قال: ومرت به القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: من هؤلاء؟ فأقول: (سُليم)، فيقول: مالي ولـ (سُليم)؟ قال: ثم تمر القبيلة، قال: من هؤلاء؟ فأقول: (مُزَينة)، فيقول: مالي ولـ (مزينة)؟ حتى نفذت القبائل، لا تمر قبيلة إلا قال من هؤلاء؟ فأقول: بنو فلان، فيقول: مالي ولبني فلان؟ حتى مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله! من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك بن أخيك الغداة عظيماً. قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذاً. قلت: النجاء إلى قومك.

قال: فخرج حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الدَّسِم الأحمش[18] قُبِّح من طليعة قوم. قال: ويحكم لا تغرَّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاء ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: ويلك وما تغني دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمِن. ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد»[19].

فقال الأب ستيفانو: لن أجد غرابةً بعد اليوم، إذا قرأتُ عبارةً تقول: «لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من تلاميذ مدرسة محمد»، لأن من يُعلِّم في مدرسته مثل هذا الدرس يوم الفتح.. ويحوّل برحمته، يومَ هلاك أعدائه إلى يوم طمأنينة لهم، يأمنون فيه داخل دورهم!! لن ينالَ الشُّعوبَ من تلاميذه الفاتحين، سوى الرأفة والرحمة والخلق النبيل.

* * *

قلت: ولقد بلغ من رحمته (صلى الله عليه وسلم) بأعدائه أنه كان يسعى لتفادي القسوة عليهم قبل وقوعها.

قال: وكيف هذا؟

قلت: لقد كان (صلى الله عليه وسلم) يوصي الجيش قبل أن يبعثه في مهمة قتالية، بوصايا تمنعهم من قتل غير المقاتلين ممن هم في صف العدو، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ[20]. فقد روى بعض أصحابه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أمّر أميراً على جيشٍ أو سريةٍ؛ أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: « اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً طفلاً - وفي رواية: وليداً طفلاً ولا امرأة -»[21].

قال الأب ستيفانو: ألا ما أرحم محمداً بأعدائه! ولا أكتمك، أننا نحن الغربيين لو وقفنا من أعدائنا موقف محمد من أعدائه، لاستطعنا تجنّب حروب كثيرة.. لم يكن لها من مبرر سوى الكِبْر والعجرفة والقسوة والطمع.

* * *

وأردف قائلاً: ولئن غمط الساسة الأوربيون، والمنتفعون من حولهم.. محمداً فضلَ رحمته بأعدائه، فلقد أنصفَتْه النخبة من أصحاب العقول المتنورة من الباحثين الغربيين.

قلت: كيف هذا؟

قال: يقول المستشرق الفرنسي (إميل درمنغم) في كتابه (حياة محمد): «لقد برهن محمد في انتصاره النهائي على عظمة نفسية قلَّ أن يوجد مثيل لها في التاريخ، إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم من أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو يقطعوا الأشجار المثمرة. وأمرهم أن لا يجردوا السيوف إلا في حالة الضرورة القاهرة»[22].

ويقول أيضاً في كتابه السالف: «إن محمداً رسول الإسلام، لم يكن شخصياً إلا رجلاً أُمياً خِلواً من الثقافة تقريباً، كجميع أبناء جلدته في عصره، ولكنه كان يعلم أن الإله رحيم رحمة لا حدّ لها، فأجهد نفسه في أن يعلو على الطبيعة البشرية وأن يقهر في نفسه الميول الانتقامية»[23].

ويقول الباحث والكاتب الغربي (لين بول): «إن كثيراً من كتّاب التّراجم والسِّير الأوربيين، الذين تناولوا الكلام عن سيرة محمد نبي الإسلام، لم يتعففوا عن أن يشوِّهوا هذه السيرة، وذلك بما أدخلوه فيها من افتراءات وادعاءات، كاتهامهم له بالقسوة، فإن هذه التهمة غير جديرة بالاعتبار كسائر الاتهامات. لأننا لو رجعنا إلى التاريخ وحكّمناه في هذه المسألة، لتبيّن لنا أن القسوة لم تكن قط من أخلاق محمد، وذلك بدليل معاملته للأسرى بعد غزوة بدر، وتسامحه مع أعدائه، وصبره على أذاهم، وعطفه على الأطفال والمرضى، وحقنه للدماء، وعفوه عن أولئك الذين قضَوا في محاربته ثمانية عشر عاماً، وأظهروا له فيها صنوف العداء، وأذاقوه من خلالها كل أنواع الجور والاضطهاد والظلم»[24].

ويقول المستشرق الألماني (برتلي سانت هيلر) في كتابه (الشرقيون وعقائدهم): «كان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، هما العدالة والرحمة».

* * *

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر في كتب السيرة النبوية صوراً مما أنـزله المشركون بالمسلمين من العذاب.

[2] المائدة /67.

[3] السلسلة الصحيحة للألباني - الحديث رقم /2489.

[4] السلسلة الصحيحة للألباني - الحديث رقم /3945.

[5] صحيح البخاري الحديث رقم /2992 - صحيح مسلم الحديث رقم /3352.

[6] الأوَّاه: الرحيم الرقيق قلبه.

[7] انظر مناقشة الحديث برواياته المختلفة وتأويلاته في (فتح الباري) لابن حجر الحديث رقم/3218.

[8] صحيح البخاري الحديث رقم /5918 - متفق عليه - أما حديث «اللهم اهدِ ثقيفاً وأت بهم» فقد ضعفه الألباني في كتابه (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة).

[9] شام السيف: أدخله في غِمده.

[10] صحيح البخاري الحديث رقم /3824 - وفي رواية مشكاة المصابيح الحديث رقم /5305 «قلت: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله r فقال: ومن يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال:لا، ولكني أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلَّى سبيله. فأتى الأعرابي أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس».

[11] التوبة /80.

[12] صحيح مسلم الحديث رقم /4413.

[13] صحيح البخاري الحديث رقم /4024 - صحيح مسلم الحديث رقم /3310 - قال الألباني في (إرواء الغليل 5/42): «وفي رواية زيادة تقول: وانصرف إلى بلده، ومنع الحَمل إلى مكة حتى جهِدَت قريش. فكتبوا إلى رسول الله r يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلى إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله r» قال الألباني: وإسناد هذه الزيادة حسن.

وقد وردت هذه الزيادة في (سيرة ابن هشام) ص 1121 ط. دار ابن كثير، مع اختلاف في بعض الألفاظ - هذا وقد كان ثمامة بن أثال، وهوذة بن علي الحنفيان، سيدَي أهل اليمامة من بني حنيفة، وقد أرسل إليهما رسول الله r عندما أرسل رسله بكتبه إلى الملوك والأمراء بعد صلح الحديبية، فلم يستجيبا لدعوته (انظر أسد الغابة 1/72) وصار الوضع بين المسلمين وبني حنيفة - حالة حرب - إلى أن أسلم ثمامة بن أثال (انظر الكامل في التاريخ 1/318 - والمختصر في أخبار البشر 1/5) أما هوذة بن علي فلم يُسلِم.

[14] الظَّهران: وادٍ قرب مكة، وعنده قرية يقال لها: مَرّ، تضاف إلى هذا الوادي فيقال: مر الظهران. – انظر معجم البلدان مادة: الظهران.

[15] هم من زعماء قريش.

[16] أبو سفيان بن الحارث: هو ابن عمه، وعبد الله بن أبي أمية: هو أخو زوجته أم سلمة.

[17] هناك رواية أخرى لإسلام أبي سفيان بن الحارث خرّجها الألباني في (فقه السيرة) للغزالي وأوصلها إلى درجة الحديث الحسن، فانظرها هناك.

االدسم: الأسود - الأحمش: القليل اللحم أي الأسود الدنيء - ذمّاً له.

[19] السلسلة الصحيحة للألباني الحديث رقم /3341 - هذا الحديث لمّ شمله الألباني من أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما.. أما حديث «اذهبوا فأنتم الطلقاء» المشهور في موقفه r من قريش يوم فتح مكة، فقد ضعّفه الألباني في كتابه (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة).

[20] البقرة /190.

[21] صحيح مسلم الحديث رقم /3261 - وفي السنن الكبرى للبيهقي 9/90 عن أنس بن مالك «لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولاصغيراً ولا امرأة».

ولم ينسَ تلاميذه وأصحابه r وصاته بعد وفاته. فقد روى البيهقي في السنن الكبرى، أن أبا بكر الصديق جهز جيشاً إلى الشام، وأوصى قائد الجيش قائلاً: «لا تقتلوا صبياً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا مريضاً ولا راهباً، ولا تقطعوا مثمراً، ولا تخربوا عامراً، ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تقعروا نخلاً ولا تحرقوه» 9/90.

[22] عن كتاب (محمد في نظر فلاسفة الغرب) لمحمد فهمي عبد الوهاب ص 34.

[23] المرجع السابق ص 33.

[24] المرجع السابق ص 38.