Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-       فضل الإيمان:

من أعظم فضائل الإيمان أن الأفعال التي يفعلها الناس مروءة، إذا فعلها المؤمن يكتب له بها أجر، فعن أنس بن مالك قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حديثاً ما فرحنا بشيء منذ عرفنا الإسلام فرحنا بذلك الحديث، قال: (إن المؤمن ليؤجر في هدايته السبيل، وفي إماطته الأذى عن الطريق، وفي تعبيره بلسانه عن الأعجمي) قال ابن حجر: حديث حسن.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
m022.jpg

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 أمَّا بعدُ:

فلا يَخفى أيها الإخوة المؤمنون ما أخبر الله جل وعلا به في كتابِه العظيم، من أنَّ المستقبل لهذا الدين، وأنَّ العاقبة للإسلام، فقد أخبر ربُّ العزة وخبره الحق وقوله الصدق، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وقضى الله جل وعلا ولا معقِّب لحكمه أنَّ العاقبة لهذا الدين العظيم، له الظهور على الدين كله ولو كره المشركون: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].

 وقد كانت هذه المحادة من المشركين وأضرابهم من المجرمين، منذ بُعِث نبينا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها، لكن الله سبحانه قد قضى، وله الحكم والأمر أنَّ من حادَّ هذا الدين وحادَّ الله ورسوله، فإنه في الأذلين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [المجادلة: 5]، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه قد كتب وقضى بأن تكون العاقبة لعباده المؤمنين: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21].

 ومن جملة ما يكون من محادة المجرمين لهذا الدين العظيم - أنْ يكون عندهم من عيبِه وتنقُّصِه وشتمِه، وادعاءِ المعايب فيه، وفي رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم وفي هذا القرآن العزيز، وهذا ديدن المشركين ومن أعانهم من المنافقين، ومن تشبَّه بهم، ممن كان في الأزمنة المتقدمة وإلى زماننا اليوم، ممن يتستَّرون بمسمَّيَات مما يزعمون فيه المدنيَّة، ويزعمون فيه أوصافًا أُخَر، ومنتهاها إلى النفاق الذي فيه إظهارهم الإسلام، وفيما يبطنون الكفر والمحادة لله ولرسوله ولدينه، وإنْ تَسَمَّوا بغير ذلك من الأسماء، فإن العبرة بالحقائق والوقائع لا بالمسميات والأوصاف.

 ونبينا صلى الله عليه وسلم محفوظٌ بحفظِ الله، مؤيدٌ بتأييد الله، والعاقبةُ لهذا الدين ولو كره المشركون، وإنَّه لمن المهم أنْ يدرك كلُّ مسلم ما ينبغي عليه من الثبات على هذا الدين، وألا يغترَّ بأقوال المشبهين، والمحادين لهذا الدين، كما أنَّ من المتعين على كل مسلم أنْ يشرف بأن يحمل همَّ هذا الدين، وهمَّ الدفاع عنه، وهمَّ الدعوة إليه، فهذا مخاطبٌ به كل المسلمين، فالدعوة إلى الإسلام وتعريفُ العالمين به، ليست مهمةً مقتصرةً على أهل العلم، أو على أهل السلطان فحسب، بل كل مسلمٍ مخاطبٌ بذلك بقدر ما عنده من العلم والقدرة، وربنا جل وعلا يقول في كتابه الكريم: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].

 فهذه الأمور الأربعة - الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق، وهو الدعوة إلى هذا الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالصبر؛ لأنه إن ثبت على دينه ودعا إليه، فلا بد أن يُبْتَلى، وهذه سنة ماضية - لا ينفك عنها المؤمن الذي يريد النجاة والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

 ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم قام بهذا الواجب العظيم أتمَّ القيامِ، وأكملَه وأشرفَه، وأسنَاه وأعلَاه، فلم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وتركها على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته.

 وقد كانت نفس نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الزكية الطاهرة الشريفة - تتأذى أول الأمر مما كانت يتعرض له من أذية المشركين، ومن شتمهم، ومن عيبهم له، وادعاء الادعاءات ضده، وهو الطاهر الزكي النقي الصادق الأَبي، بأبي وأمي وبروحي هو عليه الصلاة والسلام، وخاصة أنَّه كان بين قومه منذ نعومة أظفاره، وهو عظيم الشأن، جليل القدر، لا يصفونه طيلة حياته - الأربعين عامًا التي قضاها بينهم قبل أن يبعثه ربُّه ويُكرمه برسالته - لا يصفونه إلا بكلِّ وصفٍ حميد وخلقٍ جليل، حتى ابتعثه الله تعالى بالتوحيد ونبذ الشرك، فأظهروا عداوته، وجاهروا بافتراءاتهم، إلا أنَّ الله جل وعلا قد سلَّى نبيه وخفَّف عليه من تلك الافتراءات، وصغَّر من شأنها في نفسه، وهو يشهد له جل وعلا - ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ - أنه محوطٌ بنعم ربه التي لا يكون أبدًا معها ما يزعمونه، وإنما هو التشريف والتعظيم والاصطفاء؛ يقول رب العزة سبحانه: ﴿ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴾ [الطور: 29]، ادعو قومك، ادعو إلى الإسلام، ادعو العالمين، فإنك أنت بنعمة ربك التي امتنَّ الله بها عليك، لست كما يزعمون، ولست كما يصفون، فلست بكاهن ولا مجنون: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾ [الطور: 30، 31].

 إن كانوا يوهنون من عزمك، ويقولون: هذا شاعر ننتظر به ريب المنون، ننتظر به الموت فيموت ويذهب حسُّه، وينتهي قدره وشأنه، فقل لهم: إني متربص معكم ومنتظر: ﴿ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴾؛ لأن الأمر ليس كما تزعمون، فالأمر هو ظهور هذا الدين وبقاؤه إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها.

 وتأملوا رحمكم الله ما نبَّه إليه بعض أهل العلم حينما اكتُفِي في إبطال كونه كاهنًا أو مجنونًا بمجرد النفي، دون استدلالٍ على ذلك؛ لأنَّ مجرد التأمل في حال وشأن وسيرة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم - كافٍ في تحقُّق انتفاء هذه الأوصاف التي ادُّعِيت في شأنه، بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام.

 وهناك أمرٌ آخر وهو أنَّ هذه السخرية والادعاءات التي تظهر بين حينٍ وآخر منذ بُعِث عليه الصلاة والسلام، وإلى يومنا هذا، ويشترك فيها وللأسف الشديد بعض مَن ينتسب إلى الإسلام، ويُذاع ذلك في إعلام المسلمين - تنقُّصٌ للنبي الكريم، لشخصه الشريف، أو لسنته وهديه، وأولئك من المجرمين وإن انتسبوا للإسلام والمسلمين، وهذه الادِّعاءات ما هي إلا محض افتراء وكذب، فإنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطهر البشرية جمعاء وأزكاها، ولن تضيره تلك السخرية مهما عظُمت أو تكاثرت؛ كما أخبر بذلك ربنا في القرآن العزيز، فالله جل وعلا حافظٌ نبيه ودافعٌ عنه كلَّ أذى؛ كما قال سبحانه: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، وقال عزَّ من قائل: ﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ [الطور: 48]، وقال سبحانه: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137]، وهو القائل عز من قائل في نصرة نبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 40]، فاللهُ قد قضى - ولا معقِّب لحكمه - أنَّ العاقبة لهذا النبي الكريم ولدينه العظيم.

 وتأملوا ما كانت تقوله قريش إبَّان بعثته عليه الصلاة والسلام؛ من عيبها لهذا النبي الكريم، ووصفه بالأوصاف الكاذبة، فإذا بهذا النبي الكريم يلقى من تسليةِ الله وتصبيره له ما يجعله مطمئنَ الفؤاد مرتاحَ البال؛ يقول عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين: (ألا ترون كيف يصرف اللهُ عني شتمَ قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد)، كانوا من شدة غيظهم يبدِّلون اسم النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يقولون: محمد فعل كذا وعليه كذا، ولكن يقولون: مذمم، جاء مذمم، نعيب مذممًا، مذممًا عصينا، ودِينَه أَبَيْنَا، فيقول الرسول عليه والصلاة والسلام: ألا ترون فضل الله، أنه صرفهم عن اسمي، فحمى الله هذا الاسم الشريف، فضلًا عن جنابه الشريف من أن يُمَسَّ بهذه الادعاءات الباطلة.

 وفي هذا السياق أيضًا يثبِّت الله نبيه عليه الصلاة والسلام، ويثبِّت أتباعه بأن العاقبة لهذا الدين، وأنه محفوظ بحفظه، وهو رب العالمين؛ كما قال سبحانه في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67].

﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾: يقولها خالق الأرض والسماء، ومن أمره بين الكاف والنون، وحينئذٍ اطمأنَّ الفؤاد الشريف، وارتاحت هذه النفس الكريمة بأن الله سبحانه حافظها؛ ليؤدي هذه الرسالة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يكدِّره أن يمس في ذاته الشريفة بقدر ما كان يتأذى ويخشى ويحزن ألا يتمكَّن من تبليغ الرسالة، وأن تطوى حياته، وتنقضي قبل أن يبلِّغ رسالة ربه، فطَمْأَنَه ربُّه بأنه لن يموت حتى يكون قد بلَّغ هذه الرسالة على ما أراد ربُّ العزة سبحانه.

 فهذا خطابٌ من الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾، فهو أمرٌ له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل عليه الصلاة والسلام، وقام بذلك أتمَّ القيام؛ قال الإمام البخاري رحمه الله عند تفسير هذه الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدَّثكم أنَّ محمدًا كتم شيئًا مما أنزل الله عليه، فقد كذب، وهو يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾"، فدلَّ ذلك مع هذا الأمر الرباني على أنَّ الرسول بلَّغ كلَّ شيء، ومن ذلك هذه الآيات التي فيها الحضُّ والتأكيد على بلاغ الرسالة مهما كان الأمر.

﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾؛ أي: بلِّغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك، ومظفرك بهم؛ فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحدٌ منهم إليك.

 وقد عصم الله هذا النبي الكريم وحفظه حتى بلَّغ هذه الرسالة أتمَّ البلاغ، وأكملَ ما يكون منه عليه الصلاة والسلام، وهذا كله يوضِّح أيها الإخوة الكرام ما ينبغي على أهل الإسلام من الاستمرار في حمل هذا الدين وإبلاغه للعالمين، بأن يتمثَّلوه في أنفسهم، وأن يُؤدوه إلى غيرهم.

 ونحن ندرك اليوم أنَّ البشرية وهي تتجاوز في تعدادها سبعة المليارات، وليس منهم من المسلمين إلا مليار ونصف المليار، أو يزيد، فهؤلاء البقيَّة مسؤولية مَنْ في أنْ يعرفوا هذا الدين على حقيقته؟ وخاصة مع ما يمارس اليوم من أنواع التشويه لهذا الدين العظيم، وعيبه وإظهارِ أتباعه على أنهم أناسٌ لا يفقهون ولا يفهمون، وأنهم معتدون، وخاصة أيضًا مع ما حلَّ بالعالم الإسلامي اليوم من أنواع الفُرقةِ والتقتيل فيما بينهم، حتى بات العالم يشاهد هذا القتل والترويع وأنواع المخاوف، أنه إنما هو في ديارِ المسلمين، فكان ذلك من أعظم التشويه لهذا الدين العظيم، ومع ذلك فإنَّ المسلم لا يقنط ولا يَيْئَس، وقد مرَّ بالأمة من أمثالِ ذلك، وقد كان المخرج من هذا هو اللجوء إلى الله جل وعلا، والثبات على دينه، والتمسك بشرعه، فهذا هو المخرج للمسلمين مما هم فيه من أنواع الابتلاءات، وهو المعين لهم على الثبات على هذا الدين والرجوع إلى الصراط المستقيم.

 بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ:

فقد قال رب العزة سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33]، هذا الوعد الرباني تكرر في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع لتأكيد هذه الحقيقة، وأنها حاصلة مهما تشكك المتشككون، أو أجلب المجرمون للصد عن هذا الدين، تكرر هذا الوعد الرباني في ثلاثة مواضع من الكتاب العزيز في سورة التوبة والفتح والصف، فختمت الآية في سورة التوبة بقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وفي سورة الصف بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 9]، وفي سورة الفتح بقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [الفتح: 28].

 ولا شكَّ أن ظهور الإسلام على الدين كله، قد حصل فيما مضى من أيام، وذلك باتباع أهل الملل لهذا الدين العظيم في سائر الأقطار، بالرغم من الكراهية التي في أقوامهم من أهل تلك الملل لدين الإسلام، بل إن عظماءهم قد بادَر بعضُهم بالدخول في هذا الدين، كما كان من النجاشي ملك الحبشة وأمثاله من بعده، وكما يكون أيضًا من الناس إلى زماننا اليوم، برغم ما يكون من مقاومة هذا الدين بكل الحيل والأباطيل التي تشاع عن هذا الدين، ولكن الله سبحانه قد قضى ولا معقِّب لحكمه أن العاقبة لهذا الدين العظيم، ولكن لا بد لأتباع هذا الدين من بذل الجهد، والسعي في إظهار هذا الدين بتمثُّله في أنفسهم وفي مجتمعاتهم، وتعاملاتهم فيما بينهم، ثم بعد ذلك بتعريف الناس به، مع الصبر على هذا الدين؛ لأن الصبر على الدين مفتاحٌ للثبات عليه، وأيضًا لحصول الفرج ونيل الفلاح.

 ونبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم هو الأُسوة العظمى والقدوة الكبرى في هذا الأمر، فإن من تأمل حاله عليه الصلاة والسلام منذ بَدء دعوته إلى أن توفِّي، فإنه كان على منهاج الصبر والثقة بالله جل وعلا.

 ولنتأمل ما ذكره الإمام ابن إسحاق رحمه الله في شأن هذه السيرة الشريفة، وثباته عليه الصلاة والسلام وصبره، وذكر أولئك النفر الذين كانوا على أشد ما يكون من أذية النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو لهب، والحكم بن العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي، وكانوا كل هؤلاء جيرانًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا على أشد ما يكونوا من الأذى، ولم يُسلم منهم أحدٌ إلا الحكم بن أبي العاص.

 يقول ابن إسحاق: فقد كان الواحد من هؤلاء فيما ذكر إذا خرج يطرح على النبي صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلي عند الكعبة، وكان يطرحها في برمته، ثم يمر عليه في داره أو بجوارها، فيأتي برحم الشاة التي ذبحت، فيجعلها في قدر النبي صلى الله عليه وسلم، أو في تَنُّور الطبخ، أو غير ذلك من أواني بيته؛ أذيَّةً وصلفًا منهم نحو هذا النبي الكريم.

 وقد صبر عليه الصلاة والسلام على هذا الأذى، وكان ربما إذا طرحوا عليه هذا الأذى يأتي وقد حمل هذا الأذى على العود، فيقف على أبواب أحدهم، ثم يقول: (يا بني عبدمناف، أي جوار هذا؟!)، يُذكرهم النخوةَ العربية، وما تقتضي من حسن الجوار، وإن اختلف الدين، وهو عليه الصلاة والسلام محسنٌ لهم مع كل ذلك، إنها كمالات النفس الإنسانية التي تتعالى على هذه الأساليب الوضيعة التي لا زالت تتكرر في حقه وجنابه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه لم يكن ينتظر جزاءً ولا شكورًا من الخلق، وإنما هو كما قال الله تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

 وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومًا، فقالت: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟)، ومعلوم ما كان في أُحد من قتل الصحابة رضي الله عنهم واستشهادهم، وما كان أعظم من ذلك، وهو ما أُصيب به عليه الصلاة والسلام في وجهه الشريف، حتى سال الدم منه، (هل مر عليك يوم أشد من يوم أُحد؟)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد لقيت من قومك ما لقيت)، يعني شيئًا عظيمًا، (وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب - يعني الموضع المعروف اليوم بالطائف - قال: فرفعت رأسي عليه الصلاة والسلام، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا بها جبرائيل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليّ، ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين - يعني الجبلين العظيمين بمكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)؛ رواه البخاري ومسلم.

 فهذا صبر نبينا، وهذا جانب من سيرته في دعوته للناس، وما كان من تضحيته في ذلك، فحريٌّ بأهل الإسلام أن يكونوا على منواله، وأن يكونوا على مسلكه، وربُّ العزة سبحانه يقول: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

 ألا وصلوا وسلموا على هذا النبي الكريم الذي أمرنا ربنا بذلك في محكم تنزيله، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام، إنَّ بأمة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام من الفرقة والبأساء، ومن الشدة واللأواء، ومن تسلُّط الأعداء - ما لا يعلمه إلا أنت، ولا يقدر على كشفه إلا أنت، ولا نشكوه إلا إليك؛ فنسألك اللهم فرجًا عاجلًا لكل مكروب برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، وأصلِح ذات بينهم يا رب العالمين.

اللهم احفظ علينا في بلادنا الأمن والطمأنينة والاجتماع، وأصلح قيادتنا ووفِّقهم لما فيه الخير.

اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، وأبْعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارًا.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 http://www.alukah.net/spotlight/0/112452/#ixzz4pklbzNZp