Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-        الأمانة الوظيفية:

من الخيانة استغلال موضع المصلحة العامة في تحقيق أغراض خاصة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطاً فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة) فقال رجل: يا رسول الله، اقبل عني عملك! قال: (وما لك؟) قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: (وأنا أقوله الآن، من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى). رواه مسلم.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
al_mawsuaa_maysira.jpg

الوعي كلمة تُعبِّر عن حالة عقلية ونفسية يكون فيها المرء بحالة إدراك لذاته ولمحيطه الخارجي، ويتعلق بذلك إدراك الأحوال المعاصرة، والعوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على العالم، والأفكار المنتشرة، وتصور السبل للعيش من خلال ذلك، وكيفية تحقيق مشروعه ورسالته في ضوء كل تلك المعطيات.وهذا الذي ذكرناه من معنى الوعي نستطيع أن نقول: إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كان يتصف به ويحيط به ويدركه، فقد أحاط محمد (صلى الله عليه وسلم) بمعرفة ذاته البشرية تمام المعرفة بقُدُراتها وصفات قوتها وضعفها، وعلم التكوين البشري من حوله ومشكلات البشر، والقوى الفاعلة والمؤثرة في العالم الذي يحيط به، واستخدم كل ذلك في البحث عن أفضل السُّبُل لرعاية أمته ومصالحها، ودفع المفاسد والأضرار عنها، وبناء حاضرها ورسم  مستقبلها.وعلى الرغم من صعوبة الأجواء التي نشأت فيها دعوته وقسوتها، إلا أنه كان مدرِكًا لكل ما يحيط بها، وعالمًا بالمرحلية التي يمر بها في كل خطوة من خطواته، فلم نره يومًا مغامرًا طائشًا يندم على سلوكٍ تعجَّل فيه، ولم نره يومًا مستكينًا مترددًا حائرًا كأنه يمكّن أعداءه منه لإفنائه والقضاء عليه، بل كان محركًا للأحداث أجمعها،مستفيدًا من أخطاء أعدائه،وصاحب تصورات جديدة في الإدارة والتنظيم والتخطيط.وعلى الرغم من قلة عدد رجاله الذين بدأ بهم دعوته، وضآلة عُدَّتهم مقارنة بعدد عدوه وعُدّته؛ إلا أنه لم يضع نفسه يومًا موضع المباغَت في موقف من المواقف، بل كان هو الذي يمسك بأطراف الواقع من حوله وبنى منظومة الأمن والنصر لهذه القلة من أصحابه.لقد كان حليمًا حكيمًا، يُكثر الاستماع والتفهم والإدراك، ذكيًّا عبقريًّا، يُحسن التفسير والاستيعاب، فيضم المعلومة الصغيرة بجانب أختها حتى تتّضح له معالم خفية، وتستبين له رؤى مستترة.

وعي القائد:

الوعي صفة لازمة لكل قائد، والقائد فاقد الوعي يكون دومًا عُرْضَة للمؤامرات والانقلابات، وبلاده عُرضة للاحتلال والاستغلال، وكم سمعنا بقادة أفنوا جيوشهم، ودخلوا حروبًا خاسرة، أنهت وجودهم وأضعفت أممهم، وكم سمعنا بقادة تخاذلوا وجبنوا عن حروب لو ثبتوا فيها لكان النصر فيها حليفًا لهم.إن القيادة فنّ لا يحسنه كل أحد، إنها تتطلب الموهبة الفطرية والصفات الخاصة مع العلم والتجربة والمثابرة والقدرة، ثم يضاف إلى ذلك الوعي بالذات وبما يحيط، والقدرة على التأثير في الواقع والناس، وتوجيه القدرات والإمكانات لنَيْل أعلى ما يمكن من النصر والإنجاز.ووعي محمد (صلى الله عليه وسلم) القائد هنا يتمثل في محاور كثيرة، من أهمها: وضوح هدفه في كل خطوة من خطواته، فكان يعلم أنه نبيّ وأنه صاحب رسالة، وأنه يحمل أمانة، ولم يكن ليفرِّط في ذلك في لحظة من اللحظات. كما لم يكن قط يسير مع دعوات التنازل فيما يخص العقيدة والأهداف، حتى عندما يكون في ذلك التنازل مصلحة مظنونة؛ فالعقيدة هي محور دعوته، وتوحيد العبودية لربه هو مقتضى رسالته، ولذلك لما دعاه أعداؤه القرشيون إلى أن يعبدوا الله ربه عامًا، بشرط أن يعبد هو ما يدعون من آلهة وأوثان عامًا آخر، قرأ عليهم ما أنزل عليه من آي القرآن:  (الكافرون: ١ – ٦).كذلك فقد اتصف محمد (صلى الله عليه وسلم) بوعي تام فيما يخصّ المعرفة الدقيقة والشاملة بقوة فريقه الذاتية، من حيث العدد والعُدّة، والإمكانات والظروف، ومدى طاقتهم وقدراتهم، حتى لا يبني خطته في لحظة من اللحظات على معطيات خاطئة أو ناقصة فيتعرض للفشل.كما وعى الأخطار التي يُنتظر أن تواجهه، والعقبات التي ربما تعترض سبيله، ومن ثم أعدَّ لها ما يناسبها من خطط.كما كان يراعي ما يمكننا أن نسميه المرونة، والخطة البديلة؛ تحسبًا لاختلاف الظروف وحتى لا يصدم بالمواقف ويفاجأ بالعقبات، وامتاز بتمكين فكرة المرحلية في تحقيق الأهداف، فما هو مطلوب حتمًا قد لا يكون حضر وقته، فمن الممكن تأجيل بعض الأهداف لضرورة الحصول على هدف عاجل قد وجب.

الهجرة إلى الحبشة نموذج ليقظة الوعي:

تمثِّل الهجرة إلى الحبشة نموذجًا للوعي عند محمد (صلى الله عليه وسلم)، فعندما اشتد التضييق والإيذاء على أصحابه من أعدائهم في بداية دعوته، وهم قِلّة مستضعفون؛ خشي عليهم وعلى الدعوة الوليدة، ففكَّر في حلّ لذلك الموقف المتأزم، فمن الممكن أن يتعرضوا لإبادة جماعية وهم قلة، فجاءت خطة الهجرة إلى الحبشة.وهنا لا بد أن نعرف السبب الحقيقي لتلك الهجرة، فلم يكن السبب التخلص من الإيذاء فحسب، ولكن الأمر كان أبعد من ذلك وأعمق، وإلا لهاجر الضعفاء والعبيد، كأمثال بلال وخباب وصهيب وعمار وغيرهم من الأرقاء المستضعفين، ولكننا لو تأملنا في المهاجرين لوجدنا معظمهم من السادة من أبناء ما يعرف بالبيوت العريقة، ومعظمهم لم يكن يناله كثير تعذيب ولا ضرر؛ مقارنة بما يحدث للمستضعفين، فالمهاجرون أبناءٌ لسادة القوم، مثل: الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وأبي طالب بن عبد المطلب، وسعيد بن العاص، وهؤلاء هم سادة قريش وصفوتها، ولهذا أوجعتهم وآلمتهم هذه الهجرة ابتداءً. ومن ثَمَّ كان اختيار المهاجرين وَفْق قاعدة معلومة ومحددة سلفًا وليس عملاً عشوائيًّا بحال.وحرص محمد (صلى الله عليه وسلم) على أن يشارك بأبنائه في الهجرة، فالقائد لا يُلقي بأتباعه في الأزمة ويخرج منها سالمًا، بل سافرت معهم ابنته رقية وزوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه).ويرى بعض الكتاب المسلمين أن الهدف الأول من هجرة الحبشة هو إقامة قاعدة أخرى للدعوة في مكان غير مكة؛ تحسُّبًا لاحتمالية تعرُّض القاعدة الأولى له في مكة لخطر الاجتياح أو الإبادة.ولهذا لم يرجع هذا الوفد بعد الهجرة إلى المدينة مباشرة؛ لأن الخطر كان لا يزال قائمًا، وإنما رجعوا بعدما تم صلح الحديبية، وبعد أن اطمأن القائد على دولته، وأنها ارتبطت بصلحٍ آمِن مع أكبر أعدائها، وبعد تنامي قوتهم، فابتعد عنهم خطر الإبادة الجماعية؛ فعندئذ عاد الوفد.

وقد كان اختيار الحبشة بديلاً لمكة لأسباب:

أولاً: البُعد المكاني ، فالحبشة في قارة أخرى ، فمكة في آسيا، والحبشة في القرن الإفريقي، ويفصل بينهما البحر، أي: أنها بعيدة مكانيًّا عن مكة، فلا سلطان لأهل مكة عليها، ولا يستطيعون إجبار مَلِكِها على ردِّهم.

 ثانيًا: أهل الحبشة نصارى، والنصرانية أقرب إلى الإسلام من الشرك، أي: أن هناك قاعدة مشتركة يمكن الالتقاء عندها، وأيضًا لكونهم نصارى فهم لا يذهبون إلى مكة للحج، فلا يمكن لأهل مكة أن ينالوا أحدًا منهم بشرٍّ؛ بسبب قبولهم لوجود المسلمين عندهم أو إيوائهم.

ثالثًا: الحبشة نظام ملكيّ، لا يعترف بالقبيلة، ويعتقد في نفسه أنه أفضل من النظام القبلي وأرقى، ومن ثَمَّ لن يكون لأهل مكة التأثير عليه، وفي المقابل فالجزيرة كلها نظام قَبَلِيّ يخضع للنفوذ القبلي لأهل مكة.

رابعًا: عَدْل النجاشي ملك الحبشة، وهو الأهم والذي ذكره محمد(صلى الله عليه وسلم) لأصحابه فقال لهم: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه»([1])، فالعدل هو أقصى ما تتمناه أية أقلية، فكان المكان مكان عدل بحق، ولم يُظلموا عند هذا الملك حتى عادوا.لقد أعطتنا هذه الهجرة نموذجًا لكيفية تفكير محمد (صلى الله عليه وسلم) ووعيه، وحرصه على دعوته، وبُعْده عن المغامرة والتعجل.

وعي في اختيار أول بناء:

قد يتحدث المؤرخون كثيرًا عن مراحل بناء الدول، وعناصر ذلك البناء، إلا أنهم غالبًا ما يُغفِلون أهم عناصره؛ وهو الإنسان، الإنسان الذي تقوم على أساسه الأمم وتنهار، وهو الركن الفاعل في أيّ حضارة تريد البقاء، وما من حضارة تهمل الإنسان إلا حملت في ذاتها مقدرات سقوطها وفشلها مهما تقدمت. وهذا العنصر هو ما اختار محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يبدأ به. لقد بنى الإنسان، وعلى أساسه بنى دولته، واختار أن يبدأ إعداد ذلك الإنسان من داخل مدرسة ربانية؛ هي المسجد. فبعد هجرته إلى المدينة وقيام دولته، كان أول ما بدأ به بناء المسجد بوصفه أول بناء في الدولة الإسلامية، وأول عمل قام به المسلمون في المدينة، يقول (أرنولد توينبي) في كتابه (قصة الحضارة): «لقد وُجدت مدنٌ وقرًى بلا حصون، وقرًى بلا جيوش، وقرًى بلا أماكن للتعليم، ولكن حتى الآن لم توجد قرًى بلا معابد أيًّا كان ذلك المعبود!!».والمسد عند المسلمين يختلف جدًّا عن غيره من المعابد عند غيرهم، وبالأحرى في عصر محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد كان المسجد دارًا للعبادة يجتمع فيه المسلمون خمس مرات يوميًّا، ويجتمع البعيد والقريب فيه مرة أسبوعيًّا لصلاة الجمعة ليستمعوا لتعاليم دينهم، فتذوب الفروق بينهم وتتقارب أفكارهم، وتتحابّ أرواحهم، وخاصة أنهم كانوا فرقتين: فرقة أصحاب الأرض، وفرقة الوافدين عليها.وكان المسجد دارًا للاستشفاء، فقد كان الصحابة يُعالَجون فيه، وتُنْصَب للمريض قبة يعالج فيها، كما حدث ذلك مع سعد بن معاذ (رضي الله عنه).وكان المسجد مؤسسة تعليمية للأفراد يتعلمون فيها العلم الديني النافع، وأيضًا العلم الدنيوي المتاح مثل :القراءة والكتابة وغيرها.وفُتِح المجال للمرأة لتشهد دروس العلم؛ ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم، ومشاركة الرجل في الحياة، وقد أُعجبت عائشة زوج محمد (صلى الله عليه وسلم) بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت: «نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين»([2]).وكان المسجد مجلسًا للشورى، يجتمع فيه أهل الشورى لتقرير مصير المواقف الصعبة فيما جدَّ من أحداث، كما كان المسجد مبيتًا لفقراء المسلمين الذين لا يجدون مكانًا للمبيت.فبذلك حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) على ربط المسلمين بمكان يجمعهم دائمًا، فيصعب أن يَشرد منهم أحد، لقد كان المسجد في حياة محمد(صلى الله عليه وسلم) وبعده مكانًا يُبْنَى فيه الإنسان علمًا وعملاً، وفقهًا وحبًّا، ورغبةً وتعاونًا وتكافلاً.

وعي في بناء لبنات المجتمع:

كانت المدينة عند الهجرة قليلة الموارد، يعيش أغلب أهلها على زراعة النخيل، وبعضهم كان يعمل بالتجارة، وبعد الهجرة وفد عليها أضعاف عدد سكانها ليقيموا مع أهلها بصورة دائمة. أيّ مدينة لا تتحمل أضعاف عددها كمهاجرين، ومن الممكن أن تنشأ بينهم المشكلات الكثيرة؛ لضيق الموارد، ولمزاحمة الوافدين لأهل البلد في أرزاقهم، فكان لا بد من بناء اجتماعي مُحْكَم؛ لتلافي هذه المشكلات، وكان لا بد على القائد أن يعي هذا الأمر، ويضع حلاً للمشكلة قبل حدوثها، وهذا من فطنة القائد ووعيه، فلا يمكن أن يدفن رأسه في الرمال وينتظر وقوع المشكلة، وبعدها يحاول حلَّها.ابتكر محمد (صلى الله عليه وسلم) نظامًا اجتماعيًّا فذًّا ما سُبِقَ إليه، يحتوي تلك الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، بل ويدعم البناء النفسي لعملية العِقْد الاجتماعي في دولته، هذا النظام الذي نقصده هو نظام (المؤاخاة).ويعني هذا النظام: أن كل أنصاري من أصحاب الأرض يُؤاخي رجلاً من المهاجرين؛ ويقيمان معًا كما يفعل الأخ مع أخيه الشقيق، فتقوم بينها العلاقة المادية والمعنوية، كما الأخوين الشقيقين  تمامًا، وحتى الميراث بينهما كان يُعطَى كل أخ من مال أخيه إذا مات، ثم نُسخ التوارث بينهما بعد فترة، بعد استقرار الأمر واتساع الموارد.بهذا النظام لم يكن هناك أيّ مسلم لا يعرف له أخًا، فكان بيتهما واحدًا، وعملهما واحدًا.وقد ظهرت نجاحات عدة لهذا النظام الذي أقره محمد (صلى الله عليه وسلم)، فكان المهاجري يسعى بجهده لئلا يُكَلِّف أخاه الأنصاري فوق طاقته، فيعمل بكدّ وتعب وجدّ واجتهاد؛ كي لا يكون عالةً على أخيه، وكان الأنصاري يسعى بكل جهده لكي يُحسِن ضيافة أخيه، ويكرمه حتى ولو على حساب نفسه.وفي قصة مشهورة عرض سعد بن الربيع الأنصاري نصف ماله ليأخذه أخوه المهاجري عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.ورفض عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) ذلك العرض السخي شاكرًا           و داعيًا لصاحبه، فسأله عن السوق؛ فذهب وتاجر، حتى استغنى بكسبه، وربح، فرآه محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد أيام وعليه أثر طيب، فسأله عن ذلك فقال: تزوجتُ أنصارية.فأمره محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يقوم بوليمة العرس ولو أن يذبح شاةً ([3]).لقد قامت حضارة الإسلام على جيل مثل هذا الجيل، الذي رفض الكسل والعجز، ورفض التبعية والتطفل، وأقسم على الإيجابية في الفعل والأثر، ويكفينا أن نعلم ها هنا أن هذا الرجل المهاجر الذي تعفَّف عن مال أخيه أنه قد صار أغنى أغنياء المسلمين.وزاد عدد المهاجرين على عدد المؤمنين من أهل المدينة (الأنصار)؛ فأكمل محمد (صلى الله عليه وسلم) المؤاخاة بمؤاخاة المهاجرين مع بعضهم بعضاً، فيروي أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين طلحة، رضي الله عنهما([4]). وكلاهما مهاجري. وأدى هذا النظام إلى تماسك المجتمع الإسلامي أمام كل الهجمات التي شُنَّت عليه، وأرادت تفريق شمل أفراده، وتشتيت قوتهم، وعلم المؤمنون أن أهم قوة يتطلبها المجتمع المؤمن بعد قوة الإيمان هي قوة الوحدة والإخاء.

وعي بخصائص الأفراد ومشكلاتهم:

تعامل محمد (صلى الله عليه وسلم) مع أصحابه وأعدائه من منطلق فهم عميق لشخصياتهم، فربما أرسل رسالة إلى من يريد تعليمه أمرًا ما، وتكون رسالته تلك في صورة تصرفات، قد لا يفهمها إلا صاحبها فقط، فتؤثر فيه تأثيرًا بالغًا.في يوم فتح مكة عاد محمد (صلى الله عليه وسلم) ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل، وقد أمر أن يكون العباسُ مع أبي سفيان بن حرب -ولم يكن أبو سفيان قد أسلم- في مكان ضيِّق، لغرض محدد، وهو أن يرى الجيش كله، وذلك فيما يشبه العرض العسكري، وبالفعل كلما مرَّت قبيلة سأل: من هذه يا عباس؟! فيخبره،حتى خارت قواه، وعلم أنه مهزوم.حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس! حبذا يوم الدمار. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، وراية النبي (صلى الله عليه وسلم) مع الزبير بن العوام (رضي الله عنه) ، فلما مر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: «ما قال؟». قال: كذا وكذا، فقال: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، يوم تُكْسَى فيه الكعبة».لقد راعى محمد (صلى الله عليه وسلم) الأمرين معًا: راعى نزع الراية ممن تجاوز في عبارته، وإيصال رسالة إلى المسلمين وأهل مكة أنه غير متطلع للقتال وإراقة الدماء.وراعى طبيعة سعد (رضي الله عنه) وسابقته، وأن هذه الكلمة كانت عفوية لا تلغي محاسنه، فأخذ الراية منه بدون أن يغضبه وأعطاها ابنه قيس بن سعد بن عبادة.

ولما أسلم أعزّ فرسان مكة خالد بن الوليد(رضي الله عنه) متأخرًا، وكان فارسًا مِغْوارًا، وقائدًا ذو حنكة وخبرة دهاء، وبعد ثلاثة أشهر من إسلامه جاءت غزوة مؤتة، فأمره الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يخرج في الجيش!وكان عدد الجيش ثلاثة آلاف، وكانت النية الخروج لقتال جيش الروم إحدى أكبر قوتين عسكريتين في العالم في ذلك الوقت، وحدَّد محمد (صلى الله عليه وسلم) قائدًا لهم ولم يكن خالدًا، بل كان زيد بن حارثة، أحد الموالي الذين كانوا في مكة وحرَّره محمد (صلى الله عليه وسلم)، فهل يقبل خالد ذلك؟ لقد وضعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الاختبار كي يعلم جديته، وإخلاصه للإسلام رغم أن خالدًا بشهادة الجميع أفضل قائد عسكري عرفه تاريخ المسلمين         ( فقد خاض مئة معركة لم يهزم في أي منها)، هل يقبل ابن الوليد بن المغيرة أحد أكبر سادات مكة أن يكون تابعًا مأمورًا وأميره من الموالي؟!وقَبِل خالد، وحدَّد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترتيب القادة، فقال: إن قُتل زيد فالأمير جعفر بن أبي طالب، ولم يذكر خالدًا أيضًا، ثم قال: فإن قُتل جعفر فالأمير عبد الله بن رواحة، أحد الشعراء والصناديد من الأنصار. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن قُتل فليختر المسلمون منهم رجلاً، إنه لم يذكر خالدًا حتى بعد أن قال: إن قتل الأمراء الثلاثة، وكأن خالدًا ليس في الجيش!!فهل يتحمل ذلك الفارس القائد أن يكون تابعًا لثلاثة أمراء هم أقلّ منه كفاءة وخبرة وشهرة وقدرة؟ وحتى لم يذكر اسمه بعدهم؟! وتحمَّل خالد، وأثبت أن ولاءه للإسلام أعظم من ولائه لنفسه، وأنه قد تغيَّرت أفكاره، وتبدَّلت أحواله، وقد هذَّب الإسلامُ أخلاقَه، وبالفعل قُتل الأمراء الثلاثة، وأخذ الراية رجل، ودفعها إلى خالد، فأبى.. فقال له: والله ما أخذتها إلا لك، وقام الرجل خطيبًا في الجيش يحثّهم على اختيار خالد، فاستجابوا له واجتمعوا عليه.وقاد خالد الجيش في خطة عسكرية باهرة للعودة إلى المدينة،نعم ؛ العودة بثلاثة آلاف من بين براثن مائتي ألف من جنود الروم، ولم يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً.تلك ملامح من وعيه (صلى الله عليه وسلم) بنفسية الرجال واختبارهم وتمحيصهم لما ينتظرهم من أعباء الأمانة والمسؤولية.

وعي عسكري:

كان العرب لا يعرفون الحرب المنظمة، فقد كانوا يهجمون أو يتراجعون، بلا خطة وبلا هدف محدد، ولا يعرفون سوى الكرّ والفرّ، لكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد استطاع أن يُغَيِّر مفاهيم العرب في الحرب، فابتكر النظام الخماسي في تنظيم الجيش، فجعل الجيش على خمسة أقسام؛ المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والمؤخرة، فكان العرب يفاجؤون بهذا التنظيم الجيد.عرضت دورية عسكرية أمريكية دراسة حملت عنوان «محمد: العقلية العسكرية الفذة»،وكاتب الدراسة هو المؤرخ العسكري           (ريتشارد جابريل )، يقول فيها: إنه من دون عبقرية محمد(صلى الله عليه وسلم) ورؤيته العسكرية الفذّة ما كان ليبقى الإسلام ويصمد وينتشر بعد وفاته.

ويقول أيضًا: إنه ورغم توافر الكثير من الدراسات العلمية عن حياة وإنجازات محمد، إلا أنه لا توجد دراسة تنظر إلى محمد بوصفه أول (جنرال) عسكري في الإسلام.

وترى الدراسة أنه لولا نجاح الرسول (صلى الله عليه وسلم) بوصفه قائداً عسكرياً؛ لما كان للمسلمين أن يغزوا الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية بعد وفاته.

وتقول الدراسة: إن النظر إلى الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بوصفه قائداً عسكرياً هو شيء جديد للكثيرين؛ حيث إنه كان عسكريًّا من الطراز الأول، قام في عقد واحد من الزمن بقيادة 8 معارك عسكرية، وشنّ 18 غارة، وخطَّط لـ38 عملية عسكرية.وتذكر الدراسة أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أُصيب مرتين أثناء مشاركته في المعارك.ولم يكن محمد(صلى الله عليه وسلم) قائدًا عسكريًا محنكًا وحسب، بل ترى الدراسة أنه كان «منظِّرًا عسكريًّا» و«مفكرًا استراتيجيًّا». وتُشيد الدراسة بـ«أجهزة المخابرات» التي أنشأها وأدارها محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي تفوقت على نظيراتها عند الفرس والروم أقوى إمبراطوريتين آنذاك.وترى الدراسة أن الرسول شكَّل (القوات الإسلامية المسلحة المتحدة) التي بدأت غزواتها بعد عامين من وفاته، وكانت تلك القوات تجربة جديدة للجزيرة العربية ليس للعرب سابق عهد بها، وتمتدح الدراسة كثيرًا قدرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ونجاحه في إحداث تغيير ثوري في الطريقة التي حارب بها العرب، فبدلاً من مجموعات قتالية صغيرة ذات ولاءات قبلية محدودة تقوم بهجمات صغيرة من «كرّ وفرّ»، استطاع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدرجة عالية من الحنكة إيجاد أول جيش موحد؛ جمع جنوده من مختلف القبائل العربية. وكان الجيش ذا طبيعة تنظيمية واضحة وصارمة. وترى الدراسة أن الرسول نجح في بناء منظومة عسكرية للقيادة والسيطرة للمرة الأولى في التاريخ العربي.

وعي في مخاطبة الملوك والزعماء:

بعد ست سنوات فقط من هجرته (صلى الله عليه وسلم) واستقراره بالمدينة، أرسل محمد(صلى الله عليه وسلم) إلى الملوك والرؤساء في العالم من حوله داعيًا إياهم إلى الإسلام.ولكنه تخيَّر أولاً من يرسل إليهم، فاختار النصارى؛ لأنهم أهل كتاب، يؤمنون بالله، وأصل دينهم الحق يتفق مع الإسلام، ولهذا من الممكن أن ينطلق من أرضية واحدة مشتركة، وهي عبادة الإله الواحد، فأرسل إلى النجاشي رسالة قال فيها: «من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى»([5]).فكتب إليه النجاشي: «بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبيّ الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فلقد بلغني كتابك فيما ذكرتَ من أمر عيسى، فوربِّ السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقًا (الغشاء بين النواة والتمرة) إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مُصدَّقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين»([6]).

وكتــب إلى جُرَيْج بـن مَتى الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية‏:‏

«‏بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط،  (آل عمران: ٦٤) .واختار محمد (صلى الله عليه وسلم) لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏.‏ فلما دخل حاطب على المقوقس؛ قال له‏:‏ إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبِرْ بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك‏، فقال المقوقس‏:‏ إن لنا دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه‏، فقال حاطب‏:‏ ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد،وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قومًا فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به‏، فقال المقوقس‏:‏ إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمَزْهُود فيه‏، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضالّ، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء، والإخبار بالنجوى، وسأنظر‏. وأخذ كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فجعله في حُق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم):‏

«‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد‏:‏ فقد قرأت كتابك، وفهمتُ ما ذكرتَ فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا بقيَ، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثتُ إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك»‏‏([7]).وأرسل إلى ملك الروم هرقل بهذه الرسالة: «بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين،   (آل عمران: ٦٤) »([8]).

وكتب محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)‏:‏

«‏أما بعد، يا رسول الله! فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدِثْ إليَّ في ذلك أمرك»‏‏.‏ فكتب إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)‏. وكتب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق‏: «‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يُبْقِي لك ملكك».‏ وبتتُّبعنا لتلك الرسائل نلحظ وعيًا بالغًا عند محمد(صلى الله عليه وسلم) في معرفته بطرائق خطاب الملوك، وبما يناسبهم ويؤثر فيهم، كما نلاحظ أنه يحدثهم من منطلق كونه نبيًّا يعرض عليهم الإسلام أولاً؛ لأنها المهمة والغاية الأولى له، كما نلاحظ أنه يعرض عليهم الاتفاق أولاً على العقيدة أن «لا إله إلا الله»، وهو في رسائله كلها لا يطلب منهم شيئًا من الدنيا، ولا الملك ولا الاستضافة عندهم، ولا أية منفعة خاصة، بل يفتح لهم أبواب الآخرة، ثم يبين لهم مدى تسامح رسالته التي جاء بها فيطلب منهم إن لم يسلموا ألا يحولوا بين شعوبهم وبين الإسلام ، لقد فاجأهم بأسلوبه الذي لم يعتادوه من العرب، أسلوب تملؤه العزة والأَنَفة وتملؤه الثقة في النصر والظهور، وقد صاغه بكل ذوق وأدب وتقدير إنساني دون غرور أو تعالٍِ، وأكَّد عليهم أنه حلقة تُكمِل حلقتي موسى وعيسى عليهما السلام.ولقد راعى محمد العرف السياسي وهو يتعامل مع القادة والملوك، فحين أراد مخاطبتهم قال له أصحابه :إنهم لايقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله([9]).

-------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (17512).
([2]) أخرجه مسلم (332).
([3]) أخرجه البخاري (2049)، ومسلم (1427).
([4]) أخرجه مسلم (2528).
([5])أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: 2/188، والحاكم في المستدرك.
([6])أخرجه البيهقي في دلائل النبوة: 2/188، والحاكم في المستدرك.
([7]) زاد المعاد: 3/61
([8]) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (3322)
([9]) أخرجه البخاري (65)، ومسلم (2092)