Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          معيشته:

عن عمرو بن الحارث (رضي الله عنه) قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة. رواه البخاري.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
التغيير العلمي والحضاري

كانت مهمة محمد (صلى الله عليه وسلم) هي دعوة الناس إلى الدين، وتربيتهم وتهذيبهم،وكانت مهّمته تتمثل في بناء الإنسان، وجعْله عبدًا لله عز وجل.

لم تكن المهمة التي جاء بها محمد (صلى الله عليه وسلم)، وصرَف لها وقته هي الحضارة والعمران المادي، ولم تكن مهمته أن يُعلِّم الناس كيف يديرون حياتهم.

لكن هل يعني ذلك أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لم يحقق إنجازًا في ميدان الحضارة والعمران؟

لم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) قارئًا بل كان أميًّا، ولم يكن خبيرًا بشؤون الحياة أو فيلسوفًا أو طبيبًا، لكنه رغم ذلك أحدث تغييرًا حضاريًّا؛ فقد نقل العرب من أمة جاهلة، أمة لا تقيم أدنى قدر للمعرفة والرقي والحضارة، إلى أمة تسود، ثم تستوعب حضارة عصرها، وتنتج بعد ذلك نتاجًا ترك أثره على البشرية إلى اليوم.

إن ما تركه المسلمون من حضارة مادية إبَّان الدولة العباسية، وإبَّان حكمهم للأندلس؛ كان مفتاحًا لحضارات الأمم المعاصرة بشهادة أهلها.

والسؤال المهم: كيف أحدث محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا الرقي الحضاري؟

لم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) بشخصه وذاته عالما بأمور الدنيا، ولم تكن تلك مهمته كما سبق، لكنه وضع لبنات مهمة أسهمت في تحقيق الرقي العلمي والحضاري، ومن ذلك ما يلي:

التناسق بين دعوته والعلم:
جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) بالقرآن وهو كلام الله عز وجل، ودُوِّنت كثير من أقواله ونصوصه، واتسعت دائرتها لتشمل مجالات الحياة كافة.

ومع ذلك كله لم يأتِ في القرآن ولا في سنته ما يتعارض مع الحقائق العلمية أو يتناقض معها.

وهذا بحدّ ذاته تأكيد على انسجام ما دعا إليه مع العلم. والصراع الذي نشأ في بعض مجتمعات المسلمين إنما كان نتيجة ممارسات بعض المسلمين وفهمهم  القاصر لنصوص القرآن والسنة.

بل أشار القرآن الكريم إلى حقائق علمية لم تكن معروفة لدى الناس وقتها، وأثبت العلم فيما بعد صحتها، ومن ذلك الحديث عن مراحل تَكَوَن الجنين قال تعالى  (الحج:5).

وتحدث محمد (صلى الله عليه وسلم) عن مراحل تكون الجنين، وحدد مدة كل مرحلة فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك»([1]).

تأكيد مسؤولية الناس عن أمور الدنيا:
عاش محمد (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وهي ليست بلاد زراعة ونخل، ثم هاجر إلى المدينة فرآهم يقومون بتلقيح النخل؛ فكان هذا الموقف.

فقد مر بقوم يلقحون نخلهم، فقال:

«لو لم تفعلوا لصلح».

قال: فخرج شيصًا([2]) فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟»

قالوا: قلت كذا وكذا.

قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»([3]).

إن هذا النص النبوي يعطي قاعدة وتوجيهًا عامًّا في مصادر المعرفة، وهي أن أمور الدنيا متروكة للناس، ولم يأتِ الوحي ببيانها، حتى لو قال محمد (صلى الله عليه وسلم) شيئًا فيها من عنده؛ فإنما هو رأي يراه بحكم ما يعرفه، وينبغي التعامل مع هذا الرأي وَفْق الأدوات التي يتم التعامل فيها مع الرأي البشري.

وترك هذا التوجيه أثره؛ فنرى أن أصحابه في عدد من المواضع يسألونه عما يقول: أهو وحي من الله؟ أم رأي رآه، فإذا قال بأنه رأي ربما أبدوا له رأيًّا مخالفًا، فيستمع (صلى الله عليه وسلم) لهم بكل إنصات.

إنه يؤكد هنا أن على الناس أن يتحملوا مسؤوليتهم في أمور دنياهم، وعليهم أن يبذلوا جهدهم ووسعهم في تحصيل المعرفة التي يديرون من خلالها أمور حياتهم.

ويمارس محمد (صلى الله عليه وسلم) تأكيد هذا الأمر في موقف من مواقف الحرب بينه وبين قريش.

ففي غزوة الأحزاب سعت قريش، ومن تحالف معها، إلى استئصال محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وزحفوا إلى المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فاستشار محمد (صلى الله عليه وسلم) أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي t بأن يحفروا خندقًا حول المدينة، وأخبر أنهم كانوا يفعلون ذلك في بلاد فارس، فقام محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه بحفر الخندق.

وحين جاء أهل مكة فوجئوا بما رأوه فقالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.

لقد كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يستوعب أن يتلقى أي تجربة بشرية لا تتعارض مع دينه وقيمه، حتى ولو كان مصدرُ هذه التجربة قومًا لا يؤمنون بدينه.

لقد أكَّد بهذا الموقف وغيره لدى أصحابه وأتباعه أن المعرفة البشرية في أمور الدنيا حق مشاع، وأن على الناس أن يسعوا إليها من مصادرها الملائمة لها، والمعرفة هي مفتاح التغيير الحضاري.

صور من التغيير الحضاري:
جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) في مجتمع يعيش قيمًا حضارية متخلفة، كانت تعبيرًا عن مدى التنافر الحادث بين النفس البشرية برغباتها وطموحاتها والسلوك البشري بآثاره ونتائجه.

لقد تمثّلت الهمجية في كثير من الأشكال غير المقبولة للحياة الإنسانية الباحثة عن التحضر، فالقتل على المصلحة والعصبية للموروث والعشوائية في الإدارة والحكم، وغير الإنسانية في التعامل مع الآخر وعدُّ الإنسان كيانًا معاديًا للإصلاح؛ كل ذلك قد تبدى في تطبيقات عديدة سبق عرض ملامحها يمكننا أن نلمح طرفًا منها في بعض ما يلي:

1- وأد النفوس:
تفضيل الذكور على الإناث سمة بارزة في المجتمعات غير الحضارية، وظهرت بجلاء في مجتمع الجزيرة العربية، والعربي دائمًا في قتال وشجار، ويحتاج إلى البنين ليدافعوا عن القبيلة ويحموا ممتلكاتها، ولذا كان من أشقّ الأيام على العربي يوم أن يبلّغ بأن زوجته أنجبت بنتًا، وقد صوَّر القرآن هذا المشهد :  (النحل: 58). ويختبئ من قومه كي لا يُعيَّر بهذه المولودة، ويظل يفكر مهمومًا في أمره كيف يتخلص من هذا العبء والعار، ويتحيّر بين موقفين صورهما القرآن  فقال: (النحل: 59) .

وكان أغلبهم يفضّل الحل الثاني، وهو أن يأخذ الرضيعة، ويذهب بها إلى الصحراء، ثم يحفر لها ويدفنها، وهي حية تصرخ بين يديه ولا يتحرك قلبه ولا يَرِقّ لها.

ولا يكاد ينجو من البنات من هذا المصير المؤلم الموحش إلا قلة نادرة، ويعاملون معاملة مهينة. 

ولكن لم يخلُ زمن من رجال كانوا يستنكرون هذا الفعل، ويحثون قومهم على إبطاله، فكان منهم عمرو بن نفيل الذي كان يأخذ الرضيعة من والدها، ويربّيها في بيته، ويتكفّل بها، ثم يُخَيِّر والدها بعد أن تكبر أن يردها إليه أو يبقيها عنده كبنت من بناته، وكان يقتدي به كرام الناس.

 2- الظلم الاجتماعي لفئات المجتمع:
لقد سبق أن بيناَّ أنماطًا من الظلم الاجتماعي الواقع على الرقيق والإماء، والذي تعدى ذلك إلى المرأة ذاتها، وكيف كانت تُظلم في المعاملة منذ ولادتها حتى زواجها، ثم يكمل الزوج باقي إهانتها، ويبالغ في إهدار كرامتها، فيتزوج ويطّلق بلا عدد وبلا سبب، فلا يكون لها رأي ولا مال في ذمة مالية مستقلة بها، بل كانت المرأة من ممتلكات الرجل، فإن مات توارثها أبناؤه من غيرها، فإن شاؤوا أفرجوا عنها، وإن شاؤوا حبسوها معلقة لا تتزوج بعد أبيهم، وإن شاؤوا تزوجها واحد منهم، وغني عن القول: إنها لم تكن ترث من مال زوجها شيئًا ولا من مال أبيها، فالمال للذكور فقط،ولكن كان هناك مجموعة من كرام الناس أحسنت للمرأة أمًّا وزوجة وبنتًا، فلم تكن تسمح بإهانتهن ولا بإهدار حقوقهن، فكان منهن أمثال خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- الزوجة الأولى لمحمد (صلى الله عليه وسلم)، فكانت صاحبة مال، وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) يتاجر لها في مالها قبل أن يتزوجها.

3- أكل مال اليتيم:
لقد انتشر بينهم أن لا يورثوا الصغير مال والده، حتى لو أنفق عمره كله في جمعه؛ لأن الصغير لا يقوى على القتال، والمال للقوي القادر، فكان أقرباء الرجل يأخذون المال ولا يعطون ولده منه شيئاً، فكانوا يجمعون عليه المصيبتين: فَقْد الوالد، وفَقْد المال.

4- إغارة القوي على الضعيف:
لم تكن أغلب حروب القبائل العربية مع بعضها بعضاً حروبًا مبرَّرة، أو ذات أسباب مقبولة،إنما كان التسلط واستعراض القوة، ونهب الخيرات، هو السبب الأبرز في تلك المشاحنات،فكانت كل قبيلة ترى في جيرانها ضعفًا تحاول الإغارة عليهم، وسلب ممتلكاتهم، واتخاذ رجالهم عبيدًا ونسائهم موضعًا لقضاء الشهوة، فلم يكن بينهم حُسْن جوار، بل كلٌّ متربص بالآخر، ولهذا كانوا يحددون شهورًا محدّدة يحرمون فيها القتال، كي تنتظم تجارتهم ومعايشهم.

وأيضًا كانت هناك قبائل متخصصة في السطو على القوافل، وسرقة بضائعهم، واستعباد من فيها، وبيعهم في سوق العبيد.

5- سيادة العصبية القبلية: 
في جميع النظم البدائية الأبوية ينتظم أبناء الأب الواحد في جماعة متكاتفة، يسكنون معًا ويعيشون مجتمعين، ثم يكثر عددهم، ويتكّون ما يسمى بالقبيلة التي تنتمي دائمًا إلى  أب واحد، فإذا ضاق عليهم المكان أو قلت خيراته اضطر أحدهم إلى مفارقة القبيلة الأم، فيأخذ جميع أبنائه، ويذهب بهم إلى مكان آخر ويبدأ الدائرة نفسها.

فكان يربط بين أفراد القبيلة الواحدة روابط شديدة، فولاء العربي لقبيلته ولاء لا يوصف، وكانوا يفتخرون بأنسابهم ويحرصون على نقاء دمائهم، فلا يختلطون في زواجهم بغيرهم من القبائل.

ويحكم تلك القبيلة كبيرها سنًّا في الغالب، وله عليهم الطاعة العمياء، وله الكلمة الفصل؛ فلا يُرَدّ له قول أبدًا مهما أخطأ، فكان منهم من سمي بالأحمق المطاع الذي إذا غضب تحرك لغضبه مائة ألف سيف، ولا يسألونه فيم غضب.

وكان العربي يتحرك لنجدة أي فرد من قبيلته ولا يتأخر عنه، حتى لو كان فيه هلاكه، ولا يبحث في الأمر، بل يقف في جانب ابن قبيلته! سواء أكان الحق معه أم مع مخالفه، بل كانوا يعدون ذلك من المفاخر حتى تفاخر بعضهم شعرًا بذلك.

ولم يعرف العرب أبدًا نظام الدولة التي تضم بين طياتها أكثر من قبيلة، فلم يكن الأمر متصورًا ولا معقولاً عندهم.

6- انتشار الوهم والخرافة:
تكاد تشترك جميع المجتمعات البدائية في سمة تختلف أشكالها وتتوحد في مضمونها، وهي انتشار الخرافات بينهم وعدم إعمال العقل، فيستضعفهم الدجالون والمشعوذون ويتلهون بهم.

وكان للعرب في ذلك نصيب كبير،  فكان سدنة التماثيل يبتزونهم باسم الآلهة وكان السحرة يتلاعبون بهم، وليس أدل على ذلك من أن أحدهم كان لا يقدم على فعل مهما كان صغيرًا أو كبيرًا إلا بعد موافقة الكاهن أو العراف.

ودعونا نتعجب أن ذاك الانتشار للسحرة والمشعوذين، والذي طغى على القبائل العربية قبل بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) يطل برأسه من جديد في عصرنا الحديث بصور شتى  في كثير من البلاد التي تعلن أنها أكثر بلاد العالم حضارة ورقيًّا، حتى بات للمشعوذين مواقع على شبكة الإنترنت، وصارت لهم قنوات فضائية تتحدث باسمهم مع المخدوعين بهم!

7- الفظاظة وسوء الخلق:
وتمثل هذا الأمر في رفع الأصوات، والصخب بالأسواق، والغش في المعاملات المالية، وأكل أموال الناس بالباطل، والتعيير بالآباء والأمهات، وعدم مراعاة سن الكبير إلا إذا كان من ذوي الهيئة أو المال، وغيرها من مظاهر الفظاظة وسوء الخلق، وكان للعرب منه نصيب كبير؛ وبعد استعراض تلك المساوئ السلوكية في الأفعال عند العرب التي لم تمكّنهم من إنشاء حضارة في جزيرة العرب نتساءل: فكيف عمل محمد(صلى الله عليه وسلم) لمعالجة أوضاع الجاهلية تلك التي وجدها؟ وكيف رسم طريقاً جديداً للارتقاء الحضاري؟ ذلك ما يتم عرضه فيما يلي:

تحرير العقل القضاء على الخرافات:
فمنذ أن بُعث محمد (صلى الله عليه وسلم) وجهر بدعوته واجه أهل الخرافات الذين كانوا يدّعون معرفة الغيب، وأُنزل عليه قرآن يوضح هذا الأمر، فيقول الله تعالى له: (النمل: 65) ،. فنفى الله عن جميع مخلوقاته معرفة الغيب بما فيهم الأنبياء والمرسلون، فلا يطَّلع على الغيب أحد كما قال سبحانه :  (الجن: ٢٦). وأمر الله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أن يقول:  (الأعراف: 188). وجعل الله معرفة الغيب خمسة موضوعات اختص وحده بمعرفتها، فقال: (لقمان: 34).

 وبذلك قطع الطريق على هؤلاء الذين يستغلون سذاجة الجاهلين ويوهمونهم بالخرافات والدجل.

بل وكان من أعظم أعماله الدعوة إلى عبادة الله وحده، ونبذ الأصنام والتماثيل، فما أصعب على العقل البشري الذي أعطاه الله من الملَكات والإمكانات التي تؤهله للسيادة في الكون أن يقبل أن يسجد ويتعبّد لتمثال من الحجر لا يملك لنفسه ومن باب أولى لغيره نفعًا ولا ضرًّا.

لقد عدَّت رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) عبادة الأصنام أكبر تغييب للعقل البشري، وأكبر انحطاط فكري عقدي،فكيف يعبد الإنسان ما صنعت يداه، وكيف لصانع تمثال من الحجر بعد أن ينتهي من بنائه أن يسجد له ويتضرع إليه ويعتقد أن باستطاعته أن يكشف ما حل به من كُرَب، ثم يتقرب إليه بشتى القُرُبات، كي يرضى عنه، ويصفح عن ذنوبه ؟!

 بل قد أكد الإسلام على استخدام العقل والتفكّر، وأمر الناس جميعًا بالسير في الأرض، والتدبر في الكون، والتفكر في خلق الله، فقال تعالى: (العنكبوت: 20).

وطالبهم بالنظر في عاقبة المكذبين الظالمين الذين أفسدوا في الأرض ليعتبر الإنسان بغيره، فقال سبحانه:  (النمل: 69).

ووجَّههم إلى الكون كله لينظروا إلى الخلق، ويستدلوا به على الخالق، وختمها بسؤالهم عن العقل الذي يرتب النتائج على أسبابها، فقال سبحانه:  (البقرة: 164) .

إن التفكر في المخلوقات لَيَدلنا على حقيقة ناصعة بينة، وهي أن وحدة الخلق تدل على تفرد الخالق، فمن ينظر إلى الأرض يجدها هي والكوكب تدور حول الشمس، وتدور الشمس أيضًا ويدور كل جرْم سماوي في مدار حدَّده الله له، حتى وصل العلماء إلى آخر مكان مرئي حسب قدرة البشر، وعلموا أنه يدور حول شيء لا يعلمه إلا الله.

فإذا نظرنا إلى كل هذا، ونظرنا إلى أصغر وحدة في الكائنات لوجدنا أنها النواة، ووجدنا الإلكترونات والبروتونات تدور حول مركز النواة.

فإلى أي شيء يقودنا هذا الاتحاد في الخلق؟! لا يقودنا إلا إلى شيء واحد هو توحيد الله تعالى، فهي آيات عليه سبحانه، كما قال جل وعلا:  (البقرة: 164) .

فالعقل إن تجرد وتحرر لا يهدي إلا إلى الله، وما ضل الناسُ إلا باستعباد عقولهم بالجهل والخرافة والدجل،ولهذا ما وُوجِهَ محمد (صلى الله عليه وسلم) بالعقل ولا بالمنطق، بل وُوجِه بالإيذاء والصدّ، ومنع الناس من سماعه، وسماع آيات القرآن، فقالوا كما حكى الله عنهم:  (فصلت: 26) .

تحرير الإنسان:
 إن معنًى حضاريًّا مهمًّا لَيبرز في تعاليم محمد (صلى الله عليه وسلم) حول الإنسان وتحريره من رِبقة العبوديات بمختلف أنواعها؛ فقد علم محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه لا قيام لمجتمع صالح وإيجابي بغير تحرير للإنسان في ذاك المجتمع، فابتدأ بتحرير روحه ونفسه من عبودية غير الله، وأمره بكبح جماح ميله نحو طاعة هواه وعبودية ما يحب، كما قال تعالى في وصف من تلك حاله:(الفرقان: 43-44) .

كما حرّره من الشهوات ومن وقوعه فيها أن تستذله أو تأسره،أو تكسر إرادته، وحرره من عبودية أخيه الإنسان، تلك التي تخنعه وتذله، وتمنعه من التطور والارتقاء.

والرؤية المحمدية في تحرير الإنسان بوصفه منطلقاً للحضارة لَتصطدم اصطدامًا واضحًا بكثير من المنتجات الحضارية الفذّة التي لا تزال قائمة عبر التاريخ، حيث كان قيامها مبنيًّا على استعمال آلاف البشر واستذلالهم واستعبادهم في بناء الحجارة، أو حفر الصخور أو شق الأرض، أو ما شابه ذلك.

إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ليرى أن بثّ قيمة إيجابية إصلاحية راقية أكثر نفعًا أضعافًا مضاعفة من بناء شاهد حجري ضخم قد يستمر آلاف السنين.

الحضارة العلمية:
 لقد تنبّه محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى أن العلم هو أساس محوري في قيام الحضارة، فابتدأ عهدًا جديدًا عنوانه العلم والمعرفة والثقافة، وعُدَّ تاريخ البعثة المحمدية  بدقة تاريخ ابتداء جميع العلوم المتميزة التي خرجت من هذه المنطقة، فهو يأمر بالقراءة والكتابة،و أول آيات القرآن تبتدئ بقوله:                            ﭽ ﭻ ﭼ، وحثَّ على طلب العلم كل امرأة وطفل وشيخ في الدولة الإسلامية المستوى نفسه من الحث الذي حثّ به الرجال والشباب، بل جعله هو الموروث الأوحد من تراث رسالته المحمدية، إذ يقول في حديث عظيم من أحاديثه (صلى الله عليه وسلم): «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن الأنبياء لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر»([4])، ويقول: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»([5]).

ومن أجل تلك التعليمات ونحوها برزت دوافع طلب العلم والبحث عن المعارف والحِكم أَنىَّ وجدت، ولم تمضِ على بعثة محمد (صلى الله عليه وسلم) سوى بضعة عقود من السنين إلا وكانت الدولة الإسلامية منارة مشعة للعلم والمعرفة بشتى جوانبها، ويمكن أن يُكتب بما لا يتسع المجال هنا عن بيانه، لعظم الأثر العلمي للدولة الإسلامية وفضله على العالم أجمع، إلا أن هذا لا يمكن أن يتيسر بين أيدينا في مبحثنا هذا.

 

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (6893).

([2]) الشيص: التمر الذي لم يتم نضجه.

 ([3])أخرجه مسلم (2363).

 ([4])أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682).

 ([5])أخرجه أبن ماجه (224).