Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-       حدث في صفر:

سنة (11) خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى "أحد" فصلى على الشهداء (أي دعا لهم) كالمودع للأحياء والأموات ثم انصرف، قال عقبة بن عامر: ثم طلع المنبر فقال: (إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها) قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). متفق عليه.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
hiwar2_thumbnail.jpg

 

العدل قوام الحياة، والسموات والأرض ما قامت إلا بالعدل.

قال _تعالى_: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] (الأنعام: 152).

وقال: [وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)] (الرحمن).

قال ابن حزم ×: =وجدت أفضل نعم الله _تعالى_ على المرء أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره+.([1])

وقال: =وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه_ فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود+.([2])

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ×: =والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.

وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة+.([3])

هذا وإن من أعظم العدلِ العدلَ مع المحاور؛ إذ هو يدل على إخلاص، وصدق، وتجرد، ورغبة في الوصول إلى الحق.

ويتجلى العدل مع المحاور في الحذر من ظلمه، والحرص على التماس المعاذير له، وإعطائه الفرصة للمساءلة، وإبداء الحجة، والدفاع عن نفسه، بل وتلقينه الحجة إذا قَصَّر في الإبانة عنها.

ويتجلى ذلك _أيضاً_ بالتفريق بين الفعل وصاحبه، وبالمحافظة على روح الحوار، والحذر من آفاته، وما يفسد جو الإخاء بعد الحوار إلى غير ذلك مما هو داخل في قبيل العدل في الحوار ومع المحاور.

والسيرة النبوية حافلة بجميع ذلك، ناطقة بأن العدل، بل الإحسان سمة حوارات النبي" سواء مع الموافقين، أو المخالفين، أو المخطئين، أو المتأولين.

وإليك أمثلة توضح هذه المعاني.

المثال الأول: ما جاء في حديث حاطب بن أبي بلتعة÷ وقد سبق إيراده، والشاهد ههنا هو إعطاء النبي" حاطباً الفرصة، لإبداء حجته، والدفاع نفسه.

بل إن النبي" أحسن الظن به وصدَّقه، ولم ينس سابقته، وكونه من أهل بدر، ولعل الله اطلع عليهم فقال: =اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم+([4]).

وهذا غاية ما يكون في لزوم العدل مع المحاور؛ حيث قبل عذر المخطئ مع كِبَرِ جنايته، وكونها تمثل صورة من صور الخيانة العظمى، بل نوَّه به، وبشهوده بدراً.

وبذلك تَبَيَّن للناس وجهُ الخطأ، ووجهُ العذر؛ فطابت نفوس الصحابة، وخصوصاً عمر بن الخطاب÷ وهو من أشد الصحابة تغيظاً مما حصل.

ومع ذلك فقد طابت نفسه، ودمعت عيناه، وقال: =الله ورسوله أعلم+.

المثال الثاني: ما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن زيد÷ أن رسول الله" لما فتح حنيناً قسم الغنائم، فأعطى المؤلفة قلوبهم، فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس، فقام رسول الله" فخطبهم، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: =يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، ومتفرقين فجمعكم الله بي؟+ ويقولون: الله ورسوله أَمَنُّ.

فقال: =ألا تجيبوني؟+ فقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ.

فقال: =أما إنكم لو شئتم أن تقولوا: كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا+ لأشياء عددها زعم عمرو([5]) أن لا يحفظها، فقال: =ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، الأنصار شعار، والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً _ لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا؛ حتى تلقوني على الحوض+([6]).

وفي رواية لأنس بن مالك÷ قال: =لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان بذراريهم، ونعمهم، ومع النبي" يومئذ عشرة آلاف، ومعه الطلقاء، فأدبروا عنه، حتى بقي وحده، قال: فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئاً، قال: فالتفت عن يمينه، فقال: =يا معشر الأنصار+ فقالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، قال: ثم التفت عن يساره، فقال: =يا معشر الأنصار+ قالوا: لبيك يا رسول الله، أَبْشِرْ نحن معك، قال: وهو على بغلة بيضاء، فنزل، فقال: =أنا عبد الله ورسوله+ فانهزم المشركون، وأصاب رسول الله" غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين، والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً، فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى، وتُعْطى الغنائم غيرنا، فبلغه ذلك، فجمعهم في قُبة، فقال: =يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم+ فسكتوا، فقال: =يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم+؟.

قالوا: بلى يا رسول الله، رضينا، قال: فقال: =لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار شعباً؛ لأخذت شعب الأنصار+.

قال هشام: فقلت يا أبا حمزة: أنت شاهد ذاك؟ قال: وأين أغيب عنه؟+ ([7]).

ففي هذا الحديث دروس بليغة، وفوائد جليلة، وقواعد وأصول مهمة في باب الحوار يطول شرحها.

وموطن الشاهد ههنا أن الرسول"سأل الأنصار سؤالاً عاماً؛ ليجعل الحديث لجميعهم، ولينظر في المشكلة من جذورها، ثم بدأ بتقريرهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم، وذِكْرِ الفضل الكبير الذي فازوا به إذ أسلموا؛ فانتقلوا من الضلال إلى الهدى، ومن الفقر إلى الغنى، ومن التقاطع إلى التآلف، وتلك نعم يُسْتَوْجَبُ شكرَها، ويُسْتَنْكَرُ كنودُها.

قال ذلك النبي" ليتوسل إلى النفوذ إلى قلوبهم، وليشعرهم بعظم مكانتهم عنده، وعظيم فضل الله عليهم بسببه.

ولما كان من المقرر والمتوقع وغير المستغرب أن يجول في قلوب الأنصار أنهم _أيضاً_ بذلوا للدين، ونصروا الرسول" وصدَّقوه، وآووه _ وهي مزايا عظيمة، وحقائق ثابتة _ وكان نبي الله"_ وهو إمام الأوفياء، وسيد المنصفين، وصاحب الذوق المرهف، والنفس الكريمة، والذي يشعر بما قد يجول في خواطر الأنصار_ يستحضر ذلك تماماً.

لما كان الأمر كذلك لم ينتظر _عليه الصلاة والسلام_ أن يقول الأنصار ما يمكن أن يقولوه من مزاياهم، أوْ مَا قد يغيب عن أذهانهم من الحجة في تلك اللحظة، بل بادرهم _عليه الصلاة والسلام_ ولَقَّنهم الحجة فقال: =أما إنكم لو شئتم أن تقولوا: كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا+.

أي أنه أراد أن يعلمهم أنهم _أيضاً_ أصحاب فضل، وسابقة؛ فلم يغب عن باله وهو في تلك اللحظة العصيبة، وفي ذلك الخطاب العاتب الزاري _ أن يعترف لهم بسابقتهم وفضلهم، وأن ذلك على ذُكرٍ منه([8]).

وبعد هذا الحوار الراقي، والعتب اللطيف، والإنصاف العالي _ قال لهم؛ مبيناً وجه السبب لإعطاء أناس دون أناس: =فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم+.

ثم أحسن بعد ما أنصف فقال: =أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي" إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به+.

فقالوا: =يا رسول الله قد رضينا+.

فانظر من خلال هذا الحوار إلى جمال الحق، وعظمة الإنصاف المقرون بالإحسان.

المثال الثالث: ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة÷ قال: =وكلني رسول الله" بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله " قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي ": =يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة+؟.

قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالاً؛ فرحمته؛ فخليت سبيله، قال: =أما إنه قد كذبك، وسيعود+.

فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله" إنه سيعود؛ فرصدته؛ فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله " قال: دعني؛ فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود؛ فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله": =يا أبا هريرة ما فعل أسيرك+، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً؛ فرحمته؛ فخليت سبيله، قال: =أما إنه كذبك، وسيعود+.

فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته؛ فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود، ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: [اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله ": =ما فعل أسيرك البارحة+.

قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: =ما هي؟+.

قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: [اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ].

وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح_ وكانوا أحرص شيء على الخير _ فقال النبي": =أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟+.

قال: لا، قال: =ذاك شيطان+.([9])

فالرسول" قبل الحق مع أنه جاء من شيطان، وفَرَّق بين القول والمعلومة، وبين مَنْ قالها ونسبت إليه؛ فقد يقبل الإنسان ويرد قوله، وقد يقبل القول ولو كان صاحبه مردوداً.([10])

وفي هذا عدلٌ وإنصافٌ، وإيثارٌ للحق.

المثال الرابع: ما جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد _رضي الله عنهما_ قال: بعثنا رسول الله" في سرية فَصَبَّحْنا الحُرُقات من جهينة، فصبحنا القوم، فهزمناهم، ولَحِقْتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته برمحي؛ حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي" فقال لي: =يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟+.

قال: قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً.

قال: فقال: =أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟+ قال: فما زال يكررها علي؛ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم([11]).

فهذا الحوار الحازم الذي استدعاه المقام، لم يكن سبباً في إهدار قيمة أسامة÷ بل أنصفه النبي" وعدل معه؛ حيث أنكر صنيعه، ولم يرض عن فعله، مع أنه صدر من حِبِّه وابن حِبِّه.

ومع هذا لم يكن ذلك الخطأ ذريعة للزهد بأسامة، والحذر من توليته أمراً من الأمور؛ فالنبي" إنما تبرأ من الفعل، ولكنه لم يبرأ من أسامة، ولم يُفْقِدْه ثقته بنفسه، بل بقي _ كما هو _ حِبَّه، وابن حِبِّه، وكان يُستشفع به عنده" كما في حديث المخزومية التي سرقت، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة _رضي الله عنها_ أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت؛ فقالوا: ومن يكلم رسول الله"، ومن يتجرأ عليه إلا أسامة حب رسول الله ".

فكلم رسول الله " فقال: =أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟+.

ثم قام فخطب، قال: =ياأيها الناس! إنما أضل من قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها+([12]).

والأعجب من ذلك أنه" كان يستشير أسامة كما في حديث قصة الإفك، وفيه: قالت _أي عائشة رضي الله عنها_: =فدعا رسول الله" عليَّ بن أبي طالب، وأسامة ابن زيد _رضي الله عنهما_ حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله.

قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله" بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله! أَهْلَك، ولا نعلم إلا خيراً+ الحديث([13]).

بل كان _عليه الصلاة والسلام_ يردفه على الراحلة، حيث كان رديفه في حجة الوداع؛ فعن أسامة بن زيد أنه كان رديف النبي" حين أفاض من عرفة؛ فلما جاء الشِّعب أناخ راحلته، ثم ذهب إلى الغائط، فلما رجع صببت عليه من الإداوة، فتوضأ، ثم ركب، ثم أتى المزدلفة، فجمع بين المغرب والعشاء+([14]).

وعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أن رسول الله" أفاض من عرفة، وأسامةُ رِدْفُه.([15])

بل إنه _عليه الصلاة والسلام_ أمَّر في آخر عمره أسامة على الجيش الذي كان فيه أكابر الصحابة _رضي الله عنهم_.

فقد جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عمر _رضي الله عنهما_: أن رسول الله" بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد÷ فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله" فقال: =إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده+.([16])

وهذا غاية ما يكون في الإنصاف، والعدل مع المخطئ.([17])

المثال الخامس: وهو قريب من المثال السابق، وهو ما جاء في الصحيحين عن جابر ابن عبدالله÷ قال: =كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي" ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي" العشاء، ثم أتى قومه فأمَّهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل، فسلَّم، ثم صلى وحده، وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا، والله لآتين رسول الله" فلأخبرنه، فأتى رسول الله" فقال: يا رسول الله إنَّا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله" على معاذ فقال: =يا معاذ! أفتان أنت! اقرأ بكذا، واقرأ بكذا+.

وفي رواية: =يا معاذ! أفتان أنت _ثلاثاً_ اقرأ: =والشمس وضحاها+ و=سبح اسم ربك الأعلى، ونحوهما+.

وفي رواية: =فتان،فتان، فتان+ ثلاث مرار أو قال: =فاتناً، فاتناً، فاتناً+([18]).

فهذا حوار فيه شيء من الشدة والحزم الذي استدعاه المقام.

ومع ذلك لم ينس _عليه الصلاة والسلام_ سابقةَ معاذٍ، ولا فضله، ولا علمه، ولم يكن ذلك وسيلة إلى الإعراض عنه، والزهد فيه، بل إن الأمر انتهى ساعة نهاية الحوار.

وبعدها أقبل _عليه الصلاة والسلام_ على معاذ، ولم يصرم حبال الودِّ معه، ولم يدع تخصيصه ببعض العلم، كما جاء في الصحيحين عن معاذ÷ قال: =كنت ردف النبي" على حمار يقال له: عفير فقال: يا معاذ هل تدري حق الله على عباده، وما حق العباد على الله، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله، أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا+([19]).

فانظر إلى هذا العطف، وهذه المودة مع الإنكار والحزم في الحديث الأول.

بل إن خطأ معاذ في إطالة الصلاة لم يمنع النبي" من أن يرسله إلى اليمن قاضياً وحاكماً، ومفتياً كما في الصحيحين.([20])

ولم يمنعه _عليه الصلاة والسلام_ ذلك من أن يصرح لمعاذ÷ بالحب، فيقول: =يا معاذ إني والله لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تَدَعَنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك+([21]).

أين هذا العدل، وذلك التعامل الراقي من أناس لا يرعون أصول الحوار، ولا آدابه؛ فتراهم يصرمون، ويهجرون _حال حوارهم_ لأدنى سبب، وأقل هفوة؛ إذ كثيراً ما تفسد ذات البين بين المتحاورين؛ حتى إن ذلك لَيَحْدُث بين الزملاء، والأصحاب.

فهذه نبذة عن عدل النبي" وإنصافه في الحوار، وإن سيرته لحافلة بالكثير من ذلك.

وتلك النبذة ترشد إلى ما ينبغي تجنبه من آفات الحوار، والتي يأتي على رأسها قلة الإنصاف؛ فقلة الإنصاف خصلة قبيحة، تنساق بصاحبها إلى دركات سحيقة، فتقوده إلى الظلم، والكبر، والتزيد، والاعتساف، وتَنْجَرُّ به إلى الصرم، والهجر، والقطيعة، قال الحكيم العربي:

ولم تزل قلةُ الإنصافِ قاطعةً

 
 بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم

 

ثم إن قلة الإنصاف تسقط الاحترام من العيون والقلوب، وتحول بين الرجل وبين أن يزداد علماً وفضلاً، كما أنها تخذل العلم، وتطمس شيئاً من معالمه، كما أنها تُحدث فيه فساداً عريضاً.

فإذا لم ينصفك محاورُك، فَرَدَّ عليك الحقَّ بالشمال وباليمين، أو جحد جانباً من فضلك، أو تعامى عما معك من الحق وهو يراه رأيَ العين_فلا تُسايرْهُ في ذلك، ولا تكن قلة إنصافِه ِحاملةً لك على أن تقابله بالعناد، فتردَّ عليه حقَّاً، أو تجحد له فضلاً؛ فاحترس من أن تسري لك من محاورك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك، وأنت تحسبه من قبيل محاربة الخصوم بمثل سلاحهم.

كلا، لا يحارب الرجل خصومه بمثل اعتصامه بالفضيلة، ولاسيما فضيلة كفضيلة الإنصاف؛ فهي تدل على نفس مطمئنة، وأفق واسع، ونظر في العواقب بعيد.([22])

ثم إن في سيرته _عليه الصلاة والسلام_ في قبول الحق من أي أحد ولو كان خصماً _كما في قصة الحبر التي مضى ذكرها_ إرشاداً، وتعليماً، ودرساً لكل محاور يأمل في نجاح حواره، وتبليغ حجته، وهو أن يلزم الإنصاف، ويقبل الحق من كل أحد؛ لأن من أعظم آفات الحوار التي تنافي الإنصاف فيه ردَّ الحق؛ فمن المحاورين من يأنف من الرجوع إلى الحق بعدما يتبين له وجه الحقيقة الأبلج؛ إما خوفاً من سقوط منزلته، وإما لحسدٍ تنطوي عليه دخيلة نفسه، أو حذراً من تفوق الخصم، وحرصاً على الانفراد بخصال الحمد، أو متابعة للأصحاب، ومسايرة لمن هم على الشاكلة، أو لإرادة الإضلال، ومحاولة قتل الحق وطمس معالمه، أو غير ذلك من أسباب رد الحق، و الإصرار على الباطل.

وهذه الآفة نوع من العناد =والعناد قبيح، ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رَدَّه على صاحبه؛ فمتى كانت الحجة أظهر كان العناد أقبح.

والإنصاف جميل، ويكون جماله أوضح وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيء من الخفاء، وحيث يمكنك أن تَتَحَيَّزَ لرأيك، وتهيِّئ كثيراً من الأذهان لقبوله+.([23])

كذلك قد تقول قولاً تراه صواباً، وقد تعمل عملاً تحسبه حسناً، فينقده آخرُ بميزان العلم الصحيح، ويريك أنك قد قلت خطأً، أو عملت سيئاً.

ففي مثل هذا المقام قد تجد في نفسك كراهةً للاعتراف بالخطأ في القول، أو الإساءة بالعمل.

فإن كنت على ذُكْر في فضيلة الرجوع للحق، وعلى بَيِّنَةٍ من قبح الإصرار على الباطل_لم تلبث أن تكظم الكراهة، ولم تجد في نفسك حرجاً من أن تقول للناس: إني أخطأت في قولي، وأسأت في عملي؛ فالأكابر الذين تأدبوا بأدب الإسلام، واقتدوا بسيرة خير الأنام لا يأنفون من الاعتراف بالخطأ إذا أخطأوا، ولا يتَلبَّثُون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم وعلت أقدارهم.

والراسخون في الفضيلة لا يبالون أن يكون رجوعهم عن الخطأ أمام من خالفهم وحده، أو بمحضر جمع كبير.([24])

=وقد ينقل التاريخ شذراتٍ من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة؛ فتهتز في نفوس قرائها عاطفةُ احترامٍ لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد.

وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب.

وربما كان إكبارهم لمن شهد لخصمه بمكرمة فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة.

وسبب هذا الإكبار عظمةُ الإنصاف، وعزةُ مَنْ يأخذُ نفسه بها في كل حال+.([25])

ولو أخذت هذه الخصلة حظها من النفوس لعمّ الائتلاف، ولقلّ الاختلاف.

عن الربيع بن سليمان قال: =سمعت الشافعي يقول: ما أورَدْتُ الحقَّ والحجة على أحد فقبلهما مني إلا هِبْتُه، واعتقدت مَوَدّتَهُ، ولا كابرني على الحق أحد، ودافع الحجة إلا سقط من عيني+.([26])

=ونقرأ في تاريخ العلامة محمد بن عبدالسلام أن ابن الصباغ اعترض عليه في أربع عشرة مسألة، فلم يدافع عن واحدة منها، بل أقر بالخطأ فيها جميعاً+.([27])

=ويقص علينا التاريخ أن في الأساتذة من يحرص على أن يرتقي تلاميذه في العلم إلى الذروة، ولا يجد في نفسه حرجاً من أن يظهر عليه أحدهم في بحث، أو محاورة.

يذكرون أن العلامة أبا عبدالله الشريف التلمساني كان يحمل كلام الطلبة على أحسن وجوهه، ويبرزه في أحسن صوره.

ويروى أن أبا عبدالله _هذا_ كان قد تجاذب مع أستاذه أبي زيد ابن الإمام الكلام في مسألة، وطال البحث اعتراضاً وجواباً حتى ظهر أبو عبدالله على أستاذه أبي زيد، فاعترف له الأستاذ بالإصابة، وأنشد مداعباً:

أعلمه الرماية كلّ يومٍ

 
 فلما اشتد ساعدُه رماني+([28])

 

 
 

وهكذا يتبين لنا جمال العدل، وروعة الإنصاف، وكونه أصلاً من أصول الحوار، وكون السيرة النبوية حافلة به في كافة صوره.

وهذا المنهج النبوي الراشد في الحوار القائم على العدل _ من أعظم ما يحفظ على الناس أقدارهم، ويحمي جامعتهم، ويعطي المخطئ الفرصة الكافية لمعالجة خطئه؛ فيفيد من ذلك الخطأ، ويزداد حنكة وتجربة؛ فيكون بذلك عضواً نافعاً بدلاً من كونه عضواً أشلَّ.

ولو كانت حواراته _عليه الصلاة والسلام_ تتسم بالحِدِّية والإسقاط لما كان الصحابة على ذلك القدر من الجلالة، والعظمة، والحكمة، وحسن السياسة.

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1]_ الأخلاق والسير لابن حزم ص37.

[2]_ الأخلاق والسير ص37.

[3]_ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للطاهر بن عاشور ص186.

[4] _ للعلماء في المراد بالمغفرة في هذا الحديث أقوال، ومن أحسن من تكلم في توجيه ذلك العلامةُ ابن القيم× قال بعد أن ذكر بعض الأوجه التي قيلت في المراد بذلك: =فالذي نظن في ذلك _والله أعلم_ أن هذا خطاب لقوم قد علم الله _سبحانه_ أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم الله _سبحانه_ مصرِّين عليها، بل يوفِّقهم لتوبة نصوح، واستغفار، وحسنات تمحو أثر ذلك.    ;     ;     ;     ;     ;     ;     ;     ;     ;     ;     ;     =

=   ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة؛ فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة، ولا صيام، ولا حج، ولا زكاة، ولا جهاد، وهذا محال.                                                          

ومِنْ أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب؛ فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: =أذنب عبدٌ ذنباً فقال: أي رب، أذنبت ذنباً فاغفره لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنباً آخر فقال: رب أصبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله: علمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء+ رواه البخاري (7507)، ومسلم (2758).

فليس في هذا إطلاق وإذن منه _ سبحانه _ له في المحرمات والجرائم، وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب تاب.

واختصاصُ هذا العبد بهذا؛ لأنه قد علم أنه لا يصرُّ على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب _ حكمٌ يعمّ كل من كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لأهل بدر.

وكذلك كل من بَشَّرَه رسول الله " بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يَفْهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها، كالعشرة المشهود لهم بالجنة.

وقد كان الصدِّيق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر؛ فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيَّدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيَّدة بانتفاء موانعها، ولم يَفْهَم أحدٌ منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاؤوا من الأعمال+. الفوائد ص34_36.

[5] _ هو عمرو بن يحيى بن عُمارة أحد رجال السند.

[6] _ البخاري (4330 و 7245) ومسلم (1061).

[7] _ البخاري (4331) ومسلم (1059).

[8] _ انظر في أصول الحوار ص16_18.

[9] _ البخاري (2311).

[10] _ انظر الحوار ليحيى زمزمي ص150_151.

[11] _ البخاري (4269 و 6873) ومسلم (96).

[12] _ البخاري (6788) ومسلم (2648).

[13] _ رواه البخاري (4750).

[14] _ رواه مسلم (1280).

[15] _ رواه مسلم (1286).

[16] _ البخاري (4469) ومسلم (2426).

[17] _ مواقف الرسول" مع أسامة ÷ تحتاج إلى تأمل، ودراسة، واستلهام للعبر؛ فهي جديرة بذلك، ولعل الله ييسر هذا الأمر.

[18] _ البخاري (701 و 507 و710 و6106) ومسلم (465).

[19] _ البخاري (2856 و 7373) ومسلم (30).

[20] _ انظر البخاري (1458 و 1496 و 2448) ومسلم (19).

[21]_ رواه أحمد 5/244 و 245 و 274، وأبو داود (1522) والنسائي (1301) والحاكم 1/273 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة (751).

[22] _ انظر رسائل الإصلاح 1/38_47.

[23]_ رسائل الإصلاح1/46.

[24]_ انظر رسائل الإصلاح1/42_45.

[25]_ رسائل الإصلاح1/46.

[26]_ صفة الصفوة2/167.

[27]_ رسائل الإصلاح1/42.

[28]_ رسائل الإصلاح1/44.