Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

-          النبي في القرآن:

قال تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله)، فأمر نبيه خاصة بالصبر وترك العقاب ولو بالمثل، وهكذا كانت أخلاقه (صلى الله عليه وسلم)، يعفو ويصفح، قالت عائشة: (لم ينتقم لنفسه في شيء قط). متفق عليه.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
arrahma.jpg

أي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ محمد
 
[1]

إذا كانت تلك المواقف التي مرت بنا تحوي من العظمة ما تحوي، فإن موقفه صلى الله عليه وسلم  مع "هند بنت عتبة" لا يقلُّ عظمة عما سبق.

فهي زوجة أبي سفيان رضي الله عنه ، وابنة عتبة بن ربيعة القائد القرشي المشهور، وكانت من أشدِّ الناس حقدًا على المسلمين، وكان هذا الحقد كبيرًا من أول أيام الإسلام، ولكنه زاد بشدة وتضاعف بعد يوم بدر؛ بعد أن قُتل في ذلك اليوم أبوها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وابنها حنظلة بن أبي سفيان، وأخوها الوليد بن عتبة..

فهؤلاء أربعة من أقرب الأقربين إليها، وهم جميعًا من سادة قريش؛ فأورث ذلك في قلبها كراهية لا يماثلها فيها أحد، وظلت على هذا العداء منذ بدر، وحتى فتح مكة، وكانت من اللائي خرجن مع جيش الكفار في موقعة أحد، فكانت تُحمَّس الجيش القرشيَّ قدر ما تستطيع لقتال المسلمين، ولما فرَّ الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تقذف في وجوههم التراب وتدفعهم دفعًا لحرب المسلمين، ولم تفرَّ كما فرَّ الرجال..!!

ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهايات موقعة أحد قامت بفعل شنيع، فقد قامت بالتمثيل بالجثث المسلمة الواحدة تلو الأخرى، فكانت تُقَطِّع الآذانَ والأنوفَ، حتى وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه  عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم  فبقرت بطنه، وأخرجت كبده، وفي حقد شديد لاكت[2] منه قطعة، فما استساغتها، فلفظتها[3]..!!

وقد أثَّر هذا الموقف بشدة في رسول الله صلى الله عليه وسلم  وترك في قلبه جرحًا عميقًا..

يقول أبو هريرة رضي الله عنه : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم  على حمزة، وقد مُثِّلَ به، فلم يَرَ منظرًا كان أوجع لقلبه منه، فقال: "رحمك الله أي عم؛ فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات"[4]..

فتخيّل مدى الغضب الذي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم  ناحية هند.

ثم إنها خرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل استمرَّت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة قُبَيْلَ فتح مكة، حتى إنها رفضت ما طلبه زوجها من أهل مكة أن يدخلوا إلى بُيُوتهم؛ طلبًا لأمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل دَعَت أهل مكة لقتل زوجها أبي سفيان عندما أَصَرَّ على الخضوع للرسول صلى الله عليه وسلم ، ودفعتهم دفعًا إلى القتال[5]!!

إنه تاريخ طويل وشرس لهذه المرأة مع المسلمين.

 

وبعد هذه الرحلة الطويلة للصدِّ عن سبيل الله، فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم  مكَّة، وأقبل أهلُها من كلِّ مكان يبايعون على الإسلام..

ومن بعيد جاءت "هند بنت عتبة"، وهي منتقبة مُتَنَكِّرَة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم  تريد أن تبايع كما يبايع الناس!!

وكانت بيعة النساء على: أن لا يُشْرِكْنَ بالله شيئًا، ولا يَسرقن، ولا يَزنين، ولا يَقتلن أولادهنَّ، ولا يأتينَ ببهتان يفترينه بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ، ولا يعصينَه صلى الله عليه وسلم  في معروف..

إن أيَّ مُطَّلِعٍ على الأمورِ لن يَفترض في قدوم هند بنت عتبة للبيعة إلا محاولةً منها للهروب من حكم بالقتل هو لا محالة صادر!!

ولكنّ الموقف كان شديد البُعد عن توقّعات النّاس! فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  ؟!

لقد بدأت النساء تبايع، وقال صلى الله عليه وسلم  لهن: "بَايِعْنَنِي عَلَى أَلاَّ تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا".

فقالت هند وهي منتقبة، والرسول صلى الله عليه وسلم  لا يعرفها: والله إنّك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال..

أي أنّ هناك تفصيلات كثيرة للنساء، والرجال قد بايعوا على الإسلام بيعة واحدة.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم  لم يلتفت إلى اعتراضها، وأكمل:

"وَلا تَسْرِقْنَ"..

فوقفت هند وقالت: يا رسول الله، إنّ أبا سفيان رجلٌ شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيّ، فهل عليَّ من حَرَجٍ إذا أخذت من ماله بغير علمه؟!

فقال صلى الله عليه وسلم : "خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ"[6].

ثم انتبه صلى الله عليه وسلم  إلى أن هذه التي تتكلم هي "هند بنت عتبة" زوج أبي سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم  : "وَإِنَّكَ لَهُنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ"..؟!

قالت: نعم.. هند بنت عتبة، فَاعْفُ عمَّا سَلَفَ، عَفَا الله عَنْك!

إنها لحظة فاصلة في حياة هند بنت عتبة!

تُرى ماذا سيفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عندما يتذكّر تاريخها الطويل، وعندما يتذكّر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وما حدث له على يدها..؟

لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  كعادته وطبيعته يرحم ويعفو ويصفح، فلم يُعَلِّقْ ولا بكلمة واحدة على كل ذكرياته المحزنة، بل تنازل عن كل الحقوق، وقَبِلَ إسلامها ببساطة، وأَكْمَلَ البيعة مع النساء وكأنّه لم يتأثر أبدًا!!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وَلا تَزْنِينَ"..

   واستمرت هند في اعتراضاتها، فقالت: يا رسول الله، وهل تَزْنِي الحرّة..؟!

   فلم يتوقّف الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل أكمل:

"وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ"..

فقالت هند: قد رَبَّيْنَاهُمْ صغارًا، وَقَتَلْتَهُمْ كبارًا، هل تَركتَ لنا ولدًا إلا قَتَلْتَه يوم بدر..؟ أنت قتلت آباءهم يوم بدر، وَتُوصِينَا الآن بأولادهم!!

فلم ينفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولم يَقُلْ لها: ولماذا قاتلناهم في بدر؟! أفلم يكن ذلك لأن المشركين - ومنهم أبوك وعمّك وأخوك وابنك - حاربونا ليل نهار ليفتنونا عن ديننا، وقهرونا وعذّبونا وصادروا ديارنا وأموالنا..؟

لم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم  شيئًا من ذلك، وإنما كان رَدُّ فعله عجيبًا!!

لقد تبَسَّم صلى الله عليه وسلم  ولم يَقُلْ شيئًا، وأخذ الموضوع بشيءٍ من البساطة، وقدَّر موقف هند بنت عتبة، ومدى صعوبة الإسلام عليها.. ثم قال صلى الله عليه وسلم : "وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ"..

فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح.

فقال صلى الله عليه وسلم : "وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ"..

فقالت هند: والله ما جَلَسْنَا هنا وفي أنفسنا أن نَعْصِيكَ في معروف[7].

وهكذا بايعت نساء مكة جميعًا، بمن فيهن هند بنت عتبة < هذه البيعة المباركة.

وسبحان مقلِّب القلوب! لقد حَسُنَ إسلامُ "هند بنت عتبة"، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتُحَمِّسَهَا لحرب المسلمين، بدأت تخرج مع جيوش المسلمين لتحمِّسَهُمْ لحرب الكفار!!

وكان من أشهر مواقفها يوم اليرموك عندما بدأت تشجع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد مائتي ألف رومي، فكانت من أسباب النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.

لقد أصبحت "هند بنت عتبة" < إضافةً قويةً للأمّة الإسلاميّة، وكانت البداية موقفًا بديعًا رحيمًا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أكثر الأعداءَ الذين تحوَّلُوا إلى أخلص الأصدقاء بموقف منه صلى الله عليه وسلم  ..!!

وبعد..

فهذا غَيْضٌ من فَيْضٍ!

إنّنا لم نحرص أبدًا على الحصر، ولا نطيقه!

إنّ هذه هي "بعض" مواقفه صلى الله عليه وسلم  مع زعماء ناصبوه العداء طويلاً كما يعلم الجميع، وقد رأينا كيف أنّ رحمته صلى الله عليه وسلم  كانت سببًا في هدايتهم وإسلامهم! وليس من شكٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لو سلك معهم مسلكًا عنيفًا، أو أظهر فيهم تشفيًا

 

وشماتة لكانت حالهم غير هذه الحال، ولأصبحوا حَجَرَ عَثْرَةٍ في طريق الأمن والأمان في الجزيرة العربية كلّها، وليس في مكة وحدها، ولكنه صلى الله عليه وسلم  يُعَلِّمُنَا ما دأب على تذكيرنا به حين قال: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ"[8].

ولقد رأينا الخير الواسع الذي عمَّ الجزيرة بكاملها، بل عمَّ العالم بهذا النهج الذي انتهجه في التعامل مع النّاس، وفي التعامل مع المخالفين له، والمعترضين عليه، والطاعنين فيه، والساخرين منه، وقد صَدَقَ صلى الله عليه وسلم  حين وصف قيمة الرفق بقوله المختصر المبدع: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخَيْر"[9].

وصلِّ اللهم وسلِّمْ وبارِكْ على مَنْ عَلَّمَ الناسَ الخيرَ، وهَدَاهم إلى الرُّشد.. رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه وسلِّم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] لامارتين (الشاعر والأديب فرنسي) : مقدمة كتابه (تاريخ تركيا) ..المجلد الأول عن حياة محمد ـ باريس 1854 ص276

[2] لاكت: مضغت.

[3] الطبري: تاريخ المم والملوك2/70، ابن سيد الناس: عيون الأثر:2/18.

[4] ابن الأثير: أسد الغابة 1/ 604.

[5] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 324.

[6] البخاري: كتاب البيوع، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة (2059) واللفظ له، ومسلم: كتاب الأقضية، باب قضية هند (1714)، أبو داود (3532)، النسائي (5420)، وابن ماجة (2293).

[7] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 4/354،355.

[8] البخاري: كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله (5678)، مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب فضل الرفق (2593)، واللفظ له، والترمذي (2701)، وابن ماجة (3689)، وأحمد (24137) بلفظ: إن الله يحب الرفق في الأمر كله، وابن حبان (552) عن عائشة <، وأبو داود (4807) عن عبد الله بن مغفل.

[9] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب فضل الرفق (2592)، وأبو داود (4809)، وابن ماجه (3687)، وأحمد (19229)، وابن حبان (548) عن جرير بن عبد الله.