Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

(حدث في شوال) غزوة أحد، في سابع شوال 3هـ، خرج المسلمون، فانسحب المنافقون في نصف الطريق! وثبت بضع مئات من المؤمنين في مواجهة ثلاثة آلاف مشرك عند جبل أحد، في خطة محكمة وضعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آتت ثمارها قبل ذلك الخطأ من الرماة في لحظة ضعف، فتحول طعم النصر إلى مرارات فقد الشهداء، ونزلت في هذه الغزوة آيات آل عمران (121 وما بعدها) لئن كانت تلك مصيبة فقد نزلت الآيات عزاء وعبرة ونصراً معنوياً.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
al_mawsuaa_maysira.jpg

الناجحون في حياتهم يعتمدون بالأساس على صفتين محوريتين لنجاحهم، هما: العلم والإرادة، وعلى أساس هاتين الصفتين تتفاوت مقامات الناس ومنازلهم.فمنهم من هو قليل العلم، ضعيف الإرادة، وهؤلاء هم أقل الناس قدرًا. ومنهم من لديه علم، ولكنه ضعيف الإرادة والعزيمة، فهذا سيظل محبوسًا في سجن ذاته، غير مستغِلّ لقدراته وإمكاناته. ومن الناس من هو ضعيف العلم لكنه كثير المجهود، فهو يتخبط بجهده غير مستوضح هدفه ولا سبيله. وأما كمال مقامات الناس فهي إنما تتحقق بالعلم والعزيمة عندما يجتمعان.إن اتصاف المرء بالعزيمة والطموح في ضوء نور معرفته لهدفه وسبيله هو أقوى ما يمكن أن يتصف به فاعل ومؤثر؛ فالعزيمة تدفع وتقوي، والطموح يبشِّر ويجذب نحو الهدف المعلوم.كثير من المتساقطين في سبيل الحياة إنما يعود سبب سقوطهم إلى ضعف عزائمهم؛ لأن معوقات الحياة كثيرة، وهي أكثر لمن أراد التغيير، فإذا كان سير الإنسان ضعيفًا، وقّوته ضعيفة، وهمته ضعيفة؛ فهو يكون عندئذ نهباً مستباحاً لذئاب العالم وقاطعي الطريق.وقد أدرك محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا المفهوم، ومن ثَم انطلق في حياته من عزيمة لا تعرف الكَلل، وعمل على تقوية العزائم في نفوس أصحابه وأمته، وحاول جاهدًا أن يجعل لهم طموحًا متدرجًا نحو معالي الأمور، وكان كثيرًا ما يقول في صلاته يدعو: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة على الرشد»([1]).ويسأل ربه أن يثبته على ما تحقق من إنجاز، وأن يعطيه العزيمة على إكمال السبيل، سائلاً ربه أن تكون عزيمة رشيدة نافعة حكيمة عليمة.

بناء الإرادة:
 

حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) على بناء نفوس أمته من جديد، على أن تكون نفوسًا قوية أبية، تملؤها الإرادة، ولا يفتّ فيها الألم، ولا تتأثر بكثرة الضعفاء من حولها، ولا بكثرة الأعداء حولها، ومع هذا الموقف الذي يجلِّي ذلك:أُوذِي المسلمون في غزوة أحد - الغزوة الثانية التي لقي فيها محمد (صلى الله عليه وسلم) أعداءه – وجُرح النبي (صلى الله عليه وسلم) وقُتل عمه حمزة، وآخرون ممن كان يحبهم، ومثَّل أعداؤه بجُثث أصحابه وأحبابه، وجُرح هو جروحًا متكاثرة، وألمَّ الألم والحزن بجميع أصحابه؛ فمنهم من قُتل، ومنهم من جُرح، ولا يزال جرحه ينزف دمًا، ثم تنزل آيات القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) يقرؤها على أصحابه وهي تقول: (آل عمران: ١٣٩)، فلا ينبغي عليكم أن تهنوا أو تحزنوا؛ فيُقعِدُكم الوهنُ أو الحزنُ عن سبيلكم الذي اخترتموه وهدفكم الذي سعيتم إليه. وبالفعل؛ فقد دفن المسلمون أحزانهم في قلوبهم، ولم يستسلموا لمصابهم الذي حلَّ بهم.حيث إن أشد أعداء المرء هو انهزامه النفسي، وضعفه الداخلي، وعدم قدرته على تحمل الألم، فيُصاب عندئذ بالنكوص والقعود؛ لذا فقد اهتمَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) - رغم ألمه و ألم رجاله - أن يُعيد إليهم توازنهم النفسي والقلبي، ويخلِّصهم من أية آثار لما يمكن أن يكون انهزامية داخلية. وعندئذ رأى محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يعيد تنظيم رجاله على عَجَل، وأن يتحامل الجريح مع السليم على تكوين الجيش من جديد، ليخرجوا في أعقاب عدوهم ويطاردوهم، ويمنعوهم مما قد يجدون في نفوسهم من تكرار عدوانهم عليهم.وقد رأى عندها زعيم قريش أن يرسل الرعب والخوف في قلوب أصحاب محمد(صلى الله عليه وسلم) ليُعَمِّق عندهم شعورَهم بالانهزام، ويستغل كونهم جرحى وقتلى، فأرسل رجالاً إليهم يخبرونهم أن قبائل العرب أجمع قد اجتمعت مع قريش ليستأصلوا شأفتهم، وأنهم في الطريق إليهم.بيدَ أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) - وهو في تلك الحالة - قَبِلَ التحدي، وترك أرض أُحد ولحق بقريش، وجمع أصحابه في مكان يسمى بـ«حمراء الأسد» ثلاث ليالٍ كاملة، يرفعون فيها الرايات ويستعدون للقاء عدوهم، ويعلنون صلابتهم وعزيمتهم، حتى نزلت الآيات الكريمات وقرأها محمد (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه، ( آل عمران: ١٧٢ – ١٧٣) ..لقد كان من أعظم مكاسب ذلك الموقف أن استردَّ المسلمون عزيمتهم وقوتهم النفسية، وتخلصوا سريعًا من آثار الهزيمة، وانطلقوا من جديد نحو مسيرتهم.

عزيمة في القلب:
 

العزيمة عمل قلبي بالأساس، وإذا فقَد القلب عزمه خارتْ قوى الجسد مهما كان قويًّا، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة، ولكن تقوِّيها عزيمة القلب، وتصلِّبها إرادته، ويدعمها طموحه.  ومن هنا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يركِّز في توجيهه لأصحابه نحو بناء العزيمة في نفوسهم،وإن قلوبهم هي صاحبة القول النهائي في ذلك، وأنه لا بد من همة القلب قبل همة الأعضاء.إنه في مواقف كثيرة، يخبرهم أن المرء قد يبلغ الدرجات العلى بهمة قلبه، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده، حيث يقول في حديثه: «من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة»([2]). وقال فيمن تجهَّز للقاء عدوه، ثم أدركه الموت: «قد وقع أجره على قدر نيته» ([3]). وقال في حق الذين تخلفوا عن صحبته لتأمين حدود الدولة الإسلامية - في غزوة تبوك - من الذين حبستهم الأعذار، «إن بالمدينة لرجالاً، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العذرُ» ([4]).بل إن الأمر في تصوره (صلى الله عليه وسلم) يفوق ذلك، إنه يسري حتى في العبادة بين الإنسان وربه؛ فيقول في حديث يبين مدى فضيلة هذه الدعوة: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه» ([5]).بل قد يتفوق المؤمن الفقير بنيته الصادقة وهمته العالية على الغني كثير المال كما في قوله (صلى الله عليه وسلم): «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟ قال: «رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عرْضها مائة ألف» ([6]) ؛ فكأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) هنا يبين أن الطريق إلى الله إنما يُقطَع بقوة العزيمة، والطموح والنية الصادقة، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية.إنه يُعلِمهم أن إرادة المرء تُذهب مشقة الطريق، كما يعلِّمهم أن ضعف العزائم من ضعف حياة القلوب، وأن القلوب كلما كانت أتم حياة، كانت أكثر همة وعزيمة، وكما أن عزيمة القلب هي دليل على حياته، فإنها في الوقت ذاته سبب إلى حصول حياة أكمل وأطيب، فإن الحياة الطيبة إنما تُنَال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخسّ الناس حياةً أخسُّهم همة، وأضعفهم محبة وطموحًا ([7]).

عزيمة ربانية:

إن الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب يصيبهم الخور كثيرًا، ففي كل فترة يحتاجون إلى بداية عزم جديد، وقد تنكسر منهم عزائمهم، وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة.أما محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد تعمَّد أن يربط إرادات أمته وعزائمهم بربهم، فكان اعتمادهم عليه سبحانه هو مصدر قوتهم، وتوكلهم على قدرته هو المثبِّت لعزائمهم،فيقول في حديثه: «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسَافَها» ([8]).وهو ها هنا يربط بين ما يريد قوله، وبين معنى الآية القرآنية التي تشرح ذلك، فالآية تقول:  (آل عمران: ١٥٩)، فهي تدعو دومًا إلى أن يكون العزم مرتبطًا بالتوكل على الله سبحانه، ومعتمدًا عليه، بل إنها تدعو كل إنسان إلى أن يبذل كل ما في وسعه، ثم بعدئذ يُلقي أمرَه إلى ربه، ويتوكل عليه. وفي آية قرآنية أخرى يضرب القرآن مثالاً في الصدق النموذجي بالرجال المؤمنين الذين ضحوا بأغلى ما يملكون ابتغاء مرضات ربهم؛ ﭼ(الأحزاب: 23). فَهُم قد ربطوا عزائمهم وأعمالهم بعَهْد قطعوه على أنفسهم مع ربهم وخالقهم جل وعلا.

عــزيمة لا تُنقض:

حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) في تربيته لأصحابه أن يعلِّمهم أن عزائم الكبار لا ينبغي أن تُنْقَض   أو تنكسر، ولا ينبغي أن تتخاذل أو تتراجع، فعلَّمهم الوفاء بالوعد الذي عاهدوا أنفسهم عليه، وإنفاذ القرار إذا تشاوروا فيه، وحسم السير في السبيل مهما عاقتهم العوائق،فلا تردُّد ولا نكوصَ، ولا تراجعَ.وقد جاءت الآيات القرآنية متكاثرة حول التأكيد على الوفاء بالعهد و عدم نقض العزائم، يقول تعالى:(الرعد: ٢٠)، والميثاق هو العقد الذي عقده الإنسان على نفسه موثَّقًا أكيدًا. ولما أشار الشباب على محمد (صلى الله عليه وسلم) - قبل غزوة أحد – بالخروج إلى المشركين ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل (صلى الله عليه وسلم) على رأيهم، وبعد أن صلى دخل إلى منزله، فأخذ سلاحه، فظاهر بين درعين، وكان ذوو الرأي منهم  قد ندموا حين شعروا أنهم استكرهوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) على اتباع خطة لمقاتلة العدو كان (صلى الله عليه وسلم) يفضِّل غيرها، فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك، ولا نستكرهك على الخروج، فاصنع ما شئتَ، امكثْ كما أمرتنا.فلم يرضَ أن يَنْقُض همته، وقال لهم مصمِّمًا على الخروج: «ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأْمََتَه - أي: كامل سلاحه - أن يضعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» ([9]).

لا يضـرك السـير وحـدك:

 كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يعلِّم أصحابه درسًا آخر في العزائم والطموح، هذا الدرس معناه أن يلزموا طريق رسالتهم ولا يعبؤوا بقلة الأنصار، ولا يخشوا  كثرة المخالفين، فأصحاب العزائم قد رقت أنفسهم؛ بحيث صاروا لا يَأْبَهُون بقلة الأتباع، ووحشة الطريق. والآيت القرآنية تدل على أن المرء وحده - وهو على الحق - يمكن أن يساوي أمة كاملة، كما قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: (النحل: ١٢٠)، يعني كان مؤمنًا وحده ([10])، وقد قال لزوجته ذات مرة: «يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك» ([11]).ولعل محمدًا (صلى الله عليه وسلم) يستأنس بموقف إبراهيم عليه السلام، وكلما استوحش في تفرُّده نظر إلى الرفيق السابق له، وحرص على اللحاق به.وقد سرى في أصحابه هذا الشعور، فبينما صاحبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رجلاً يقول: «اللهم اجعلني من الأقلين»، قال له عمر: «يا عبد الله، وما الأقلون؟»، قال سمعت الله تعالى يقول: (سبأ:13)، فقال عمر: صدقت.كما كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يعلِّمهم مفهومًا آخر يتعلق بذلك، وهو أن القلة المؤمنة هي القلة التي ستصبر حتى النهاية، وأن القائد لا ينبغي أن يغتر بالكثرة حتى لو كانوا معه في بداية الطريق، وإنما عليه أن يختبرهم، فمن كانت عزيمته أقوى كان هو الأحق بالاستمرار والسير، ومن كان ضعيف العزيمة مستجيبًا للمغريات، غير صابر على الآلام؛ فهو الأقل حظًّا في اللحاق بالركب.وقد قصَّ القرآن الكريم قصة بالغة الدلالة في هذا المعنى عن الملك طالوت ونبي الله داود عليه السلام، فقال تعالى: ﭽ (البقــــــــــــرة: 249-251). إنها قصة حكيمة قرأها محمد (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه؛ ليعلِّمهم منها أن الذين يستمرون في النهاية فيتحقق النصر على أيديهم هم أصحاب العزائم التي لا تخور، مهما كانوا قليلاً، وأن قلتهم ليست ضعفًا، ولكنها قد تزيدهم قوة إلى قوتهم؛ إذ إن المعركة معركة قلوب، وليست الكثرةُ دائمًا قوةً في ذاتها.

إرادة القدوة:

لم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) ليَبُثّ مفهومًا مثل ذلك في أمته بغير أن يكون هو ذاته قدوةً فيه، بل كان يبتدئ بنفسه دومًا، ليكون سباقًا إليه، فلا يأمر إلا بما يفعل.يحكي صاحبه البراء (رضي الله عنه) مشهدًا رآه، فيقول: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى الترابُ بياضَ بطنه، وهو يقول: لولا أنــت مــا اهتـدينا  ولا تصدقنا ولا صلينافأنزلنْ سكينةً علينا     وثبِّتِ الأقدام إن لاقيناإن الأُلَى قد بَغَوْا علينا  إذا أردوا فتنة أبينا ([12])كَمْ ترك هذا المشهد في نفوس أصحابه؟! إنه ينقل التراب على ظهره ويشاركهم المعاناة والتعب.ويروي صاحبه أبو الدرداء (رضي الله عنه) موقفًا آخر فيقول: «خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله، وعبد الله بن رواحة»([13]).كما يروي خادمه أنس بن مالك (رضي الله عنه) فيقول: لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت، فتلقاهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرسٍ عَرِيّ، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تُرَاعوا، لم تُرَاعوا» ([14]).فهذه الروايات  تبيِّن كيف كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يبدأ بنفسه المبادرة، ويضعها موضع القدوة دومًا، ولا يطلب من أمته شيئًا قبل أن يفعله، حتى في أشد المواقف، فقد كان العدو يوشك أن يداهمهم، فانخرط معهم (صلى الله عليه وسلم)، ولما فزعوا من صوت شديد، وخرجوا يستعجلون الأمر؛ تلقاهم (صلى الله عليه وسلم) عائدًا وقد ركب فرسًا بغير سرج – على عَجَل وسرعة – يهدِّئ روْعهم، ويزيل خوفهم ويقول لهم: لم تراعوا.

منهج يربِّي العزيمة والطموح:

لقد أنزل القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) يثني على أصحاب الهمم والعزائم العالية، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، وجعل أعلاهم مقامًا من أسماهم «أولي العزم من الرسل»، فقال تعالى :  (الأحقاف: ٣٥). وقد بيَّن سبب كونهم أهل العزم، وهو أنهم صبروا وثابروا، ودافعوا عن قضيتهم وظلوا مستمسكين بمبادئهم، شأنهم شأن الأنبياء الآخرين، غير أنهم زادوا عليهم أن آلامهم كانت أكثر، وابتلاءاتهم كانت أشد، وأن مواقفهم كانت أصلب، وعَدّ القرآن في مقدمتهم: ( نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام). كما قصَّ القرآن مواقف ذوي الهمم والعزائم العالية من أتباع الأنبياء، كما في موقف الرجلين الصالحين مع موسى - عليه السلام - اللذين حثَّا بني إسرائيل على دخول الأرض المقدسة فقالا كما حكاه القرآن الكريم :ﭼ (المائدة: ٢٣). كما قص قصة رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، وكيف أنه بعزيمته نصح موسى، ووقف معه وقفة ثابتة، بعزيمة راسخة، وراح يعظ آل فرعون ويُنْذِرهم، وقد أورد القرآن جانبًا من حديثه، فقال تعالى:  (غافر: ٣٨ – ٤٥).  كذلك فقد أمر المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات، فقال تعالى:  (الحديد: ٢١).وقال تعالى:  (آل عمران: ١٣٣).وقال أيضًا:  (البقرة: ١٤٨).وقال: الذاريات: ٥٠).وقال:  (الصافات: ٦١) .وقال:  (المطففين: ٢٦) .وامتدح المقربين منه بأنهم:  (المؤمنون:٦١).وقال تعالى: (النساء: ٩٥).

اللهم إني  أعوذ بك من العجز والكسل:

إنه دعاء كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يُكثر أن يدعو به، وينصح به أصحابه، فبينما هو في يوم من الأيام يدخل المسجد، إذ وجد صاحبًا من أصحابه مهمومًا محزونًا كسيرًا، وإذا به يقول له: «ألا أدلك على كلمات إن قلتهن ذهب عنك همك وقضى الله عنك دينك؟» قال: قل يا رسول الله! فقال: قل: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من الجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» ([15]). وكان خادمه أنس يقول: إنه كان كثيرًا ما يدعو بهن.والمتأمل في هذا الدعاء بالخصوص يجده يعدُّ عجز المرء (وهو عدم قدرته على الأداء)، وكسلَ المرء (وهو تباطؤه وتوانيه في الأداء)، وهمَّه وحزنَه،اللذين يُقْعِدانه عن الإنجازات والأعمال، وجبنًه وبخلَه وهرمَه التي يَمنعه من اللحاق بأصحاب المراتب العالية؛ تجده يعدُّ كل ذلك شيئًا ينبغي على المؤمن أن يتعوذ منه، وأن يتنصَّل منه، وأن يتبرأ منه، وأن يدعو ربه دومًا أن يباعد بينه وبينه؛ إذ المؤمن دومًا فعّال طموح مُؤَثِّر مُنجز.لقد بذل محمد (صلى الله عليه وسلم) جهده في أن تظل عزيمته فعالة حية مؤثرة، واستعان بربه في كل أمر خارج عن قدرته، واستعاذ منه مما يمكن أن يصيبه مما يؤثر في  عزمه أو يضعف طموحه.

الطــموح:

لقد كان محمد (صلى الله عليه وسلم) دومًا يربط الطموح بالعزائم، ويعلم أمته أن يتسموا بالطموح ويتصفوا به، وكان كثيرًا ما يقرأ هذه الآية:  (الفرقان: ٧٤)، إنها إمامة لا يقتصر طموحها على حدود الدنيا وحسب، بل إنها تتعداه إلى الخلود في جنات الآخرة. إن هذا الطموح لم يكن طموحًا في الظهور ومراءاة للناس، ولكنه كان طموحًا في التأثير والتعمير والإصلاح، والمسابقة في التقرب إلى الله، فقد بيَّن أن أكمل حالات المؤمن أن يكون همه الاستعداد للآخرة، فقال (صلى الله عليه وسلم): «من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له» ([16]).وهو بهذا لا ينهاهم عن الكسب الدنيوي وتحصيل المتاع المباح؛ بل هو يأمر بذلك ويؤكد عليه ويوجبه، لكنه ينهى الناس أن تكون الدنيا هي كل شيء في حياتهم.وعلَّم محمد (صلى الله عليه وسلم) أمته المبادرة والمسابقة إلى ألأعمال الصالحة؛ فيقول(صلى الله عليه وسلم): «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا. ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه. ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً»([17]).وقوله (صلى الله عليه وسلم): «يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارقَ، ورتِّل، كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها» ([18]).وحث الذين لا يجيدون قراءة القرآن على قراءته وأخبر أنهم يؤجرون على ذلك فقال : «مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران»([19]).

وحذَّر من تعُّمد التباطؤ عن المسابقة إلى الطاعات، كما في قوله(صلى الله عليه وسلم): «احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يُؤخَّر في الجنة وإن دخلها» ([20]).كما علَّم أمته الطموح في الدعاء؛ فأمر أن يسأل الداعي ربه بعظائم الأمور وأكابرها، ولا يستكثر شيئًا على ربه؛ فقال: «إذا سأل أحدكم فليُكْثِر، فإنما يسأل ربه» ([21]).وفي لفظ آخر: «إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل» ([22]).وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة» ([23]). وأنكر محمد (صلى الله عليه وسلم) على من تضاءلت همته، وتواضعت طموحاته؛ فعن أنس (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عاد رجلاً من المسلمين قد ضعُف، فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟»، قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «سبحان الله لا تطيقه، أو: لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»، قال: فدعا الله له، فشفاه ([24]).وعن ربيعة بن كعب (رضي الله عنه) قال: كنت أخدم النبي (صلى الله عليه وسلم) نهاري، فإذا كان الليل آويت إلى باب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فبتُّ عنده، فلا أزال أسمعه يقول: «سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي»، حتى أملَّ، أو تغلبني عيني فأنام، فقال يومًا: «يا ربيعة! سلني فأعطيك». فقلت: أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله! أسألك أن تدعو لي أن ينجيني من النار، ويدخلني الجنة، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم قال: «من أمرك بهذا؟»، قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي، قال: «إني فاعل، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود»([25]). إن أثر هذه التربية والتوجيه على أصحابه وأتباعه لا يقف عند مجرد التطبيقات المباشرة التي اتصل بها النص، بل يمتد ليوجد نفوسًا ذات عزيمة وطموح، وذات همة عالية في حياتها كلها؛ في حياة الفرد في نفسه، ومع أسرته، ومع مجتمعه.

--------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه أحمد (16683)، والترمذي (3407).
([2]) أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (30).
([3]) أخرجه مالك (552)، وأحمد (23239)، وأبو داود (3111)، والنسائي (1846)،                    وابن ماجه (2803).
(4) أخرجه البخاري (4423)، ومسلم (1911). واللفظ له.
([5]) أخرجه أبو داود (1314)، والنسائي (1784).
([6]) أخرجه أحمد (8710)، والنسائي (2528).
([7]) مدارج السالكين. ابن القيم 945.
([8]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى( 20569)، والطبراني في المعجم الكبير (2894)، وفي المعجم الأوسط (2940)، وأبو سعيد الشاشي في مسنده (20)، والقضاعي في مسند( 1076).
([9]) أخرجه أحمد (14373)، والدارمي (2159).
([10]) مجموع الفتاوى 11/436.
([11]) أخرجه البخاري (3358)، مسلم (2371).
([12]) أخرجه البخاري (2837)، ومسلم (1803).
([13]) أخرجه البخاري (1945)، مسلم (1122) واللفظ له.
([14]) أخرجه البخاري (2908)، ومسلم (2307).
([15]) أخرجه أبو داود (1555)، وبسياق آخر عند البخاري (2823)، ومسلم (2706).
([16]) أخرجه الترمذي (2465)، والدرامي بسياق غيره (229).
([17]) أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437).
([18]) أخرجه أحمد (6760، 9737)، وأبو داود (1464)، والترمذي (2914).
([19]) أخرجه البخاري (4937)، ومسلم (798).
([20]) أخرجه أبو داود (1108).
([21]) أخرجه ابن حبان في صحيحة (889).
([22]) أخرجه عبد بن حميد في مسنده (1496)،والطبراني في المعجم الأوسط (2040)، وابن أبي شيبة في مصنفه (29369).
([23]) أخرجه البخاري (2790).
([24]) أخرجه مسلم (2688).
([25]) أخرجه مسلم (489).