البشاشة هي طلاقة الوجه عند اللقاء، تبدو في ملامح الوجه وبسمات الشفاه، كما تبدو في التبسط والتحبب، ومحاولة التقارب وروعة الاستهلال.ومن فقد البشاشة فقد افتقد كسبًا مهمًّا في أول لقاء، والعكس صحيح، فعبوس الوجه يسبِّب الضيق، ويُشعِر الآخر بعدم الرغبة في اللقاء، والابتسامة وحدها عطاءٌ، وتدل على نفس قادرة على البذل للآخرين والاهتمام بالناس والفرح لفرحهم ومشاركتهم في كل أحوالهم، وهي أول العطاء وهي المحددة لما بعدها.وقد بيَّن محمد (صلى الله عليه وسلم) ذلك المعنى، فقال موضِّحًا العلاقة بين العطاء والابتسامة، فقال: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة»([1]). فالا
يقول جرير بن عبد الله البجلي أحد صحابته (رضي الله عنه): «ما رآني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا ابتسم في وجهي»([2]). ويصف
وهكذا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يدعو أصحابه إلى الطلاقة والبشاشة، وحسن اللقاء فكان يقول: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» ([5]).ووصفه أحد أصحابه المقربين منه، وهو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بقوله عن ضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «وكان من أحسن الناس ثغرًا»([6]). ويقول سمُرة بن جندب يصف صاحبه محمدًا (صلى الله عليه وسلم): «كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم (صلى الله عليه وسلم)»([7]).إنه إذًا لم يكن بالمتجهّم العبوس إظهارًا لجديته ولنبوته، إنما كان هاشًّا باشًّا لغيره.ونحن نرى رجالاً لا تفارق البسمة وجوههم إذا كانوا في مصلحة ذاتية أو تعامل يجلب لهم نفعًا، ولكنهم إذا عادوا إلى بيوتهم وأهليهم يبدلون أوضاعهم ويكسو العبوس وجوههم، ولكن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لم يكن كذلك، تقول زوجته عائشة - رضي الله عنها-: «كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكًا بسّامًا»([8]).
ولم يكن تبسُّمه عند الفرح وعند الرضا فحسب، بل كان ربما استعمل بسمته في تخفيف حدة غضبه، وينجح في ذلك، فقد تخلف كعب بن مالك (رضي الله عنه) عن غزوة تبوك ولم يحضر معهم، وبعد أن عاد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وذهب كعب يعتذر إليه (والقصة طويلة) قال كعب في سرده لحكايته: «فجئت فسلمت عليه فتبسم تبسُّم المغضب، فقال: ما خلَّفك؟»([9])،أي: أنه تبسم وهو غاضب، ولم يبد من غضبه سوى أنه تبسم، كما يقول كعب في نهاية حكايته، وبعد أن أبلغوه قبول الله العفو عنه، يقول: «فلما سلمت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه»([10]).ولم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) بسَّامًا مع أصحابه المؤمنين فقط، بل كان بسامًا مع الجميع، حتى مع من يكره، فقد دخل عليه رجل سيئ الخلق فاحش القول، فاستأذن عليه في بيته، فقال: «ائذنوا له»؛ فلما دخل عليه تطلق في وجهه، وألان له الكلام، وانبسط له في الحديث، فسألته زوجه عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقال: «أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس أو وَدَعه الناس اتقاء فحشه»([11]). وقال: «إن الله لا يحب الفاحش المتفحش»([12])، حتى الرجل الفاحش السيئ الخلق تبسَّم النبي في وجهه، وهشَّ له، وعامله معاملة حسنة وهو في بيته.
تبسمه (صلى الله عليه وسلم) مع الأحداث:
إن حب الدنيا وحب المال أمر فطري، قد ارتكز في نفوس البشر، ولعلم محمد (صلى الله عليه وسلم) بطبيعة النفوس البشرية وميولها لم يتعجب من صنيعها، بل تبسم إذا رآها في لحظة تفرح بخير الدنيا إذا أقبل، فقد جاء أبو عبيدة بن الجراح (رضي الله عنه) بمال من البحرين، فوافق صلاة الفجر، فلما انصرف من الصلاة تعرضوا له، ولم يتفرقوا، فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إليهم حين رآهم، وقال: «أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة، وأنه جاء بشيء؟» قالوا: أجل يا رسول الله!. قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم»([13]).عن أنس (رضي الله عنه) أن رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الجمعة وهو يخطب بالمدينة، فقال: قحط المطر فاستسق ربك، فنظر إلى السماء وما نرى من سحاب، فاستسقى فنشأ السحاب بعضه إلى بعض، ثم مُطِرُوا حتى سالت مثاعب المدينة، فما زالت إلى الجمعة المقبلة ما تقلع، ثم قام ذلك الرجل أو غيره والنبي (صلى الله عليه وسلم) يخطب، فقال: غرقنا فادع ربك يحبسها عنا فضحك، ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا» مرتين أو ثلاثًا، فجعل السحاب يتصدع عن المدينة يمينًا وشمالاً، يمطر ما حوالينا ولا يمطر منها شيء؛ يريهم الله كرامة نبيه (صلى الله عليه وسلم) وإجابة دعوته([14]).
وفي مواقف الحياة المتكررة من سفر وإقامة، لا تفارق الابتسامة محمدًا (صلى الله عليه وسلم) فعن علي بن ربيعة قال شهدت عليًّا أُتِيّ بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله ثلاثًا.فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال : (الزخرف: ١٣ – ١٤) . ثم قال: الحمد لله ثلاثًا، والله أكبر ثلاثًا، سبحانك إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم ضحك. قلت: من أي شيء ضحكتَ يا أمير المؤمنين؟! قال رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صنع كما صنعتُ ثم ضحك، فقلت: من أي شيء ضحكت يا رسول الله؟!قال: «إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك»([15]).إنها ابتسامة رقيقة شفافة، تخرج على ملامح وجهه، تعبر عن علمه وإدراكه لطبائع النفس البشرية إذا تغيرت بها الأحوال.
ابتسامة الرضا:
إن ابتسامة الرضا كثيرًا ما كانت تبدو على وجه محمد (صلى الله عليه وسلم) مع كل سلوك يراه فيرضى به، أو يعجبه من أصحابه أو أحد ممن معه، فحينما يرى فقهًا من أصحابه في دين الله أو يراهم قد اهتدوا إلى أمر شرعي بفطرتهم كان يسعد ويُسَرّ ويفرح ويبتسم.فقد ذهب جماعة من أصحابه في سفر ومروا على قبيلة عربية ولم يكن معهم طعام، ورفضت القبيلة إطعامهم على الرغم من أن عادة العرب غير ذلك، ولدغت عقرب قَدَم كبيرهم، فسألوهم: هل منكم أحد يرقي من لدغ العقرب؟ فقال واحد منهم: نعم، فقرأ عليه فاتحة القرآن، فشُفي الرجل، وأعطوهم أغنامًا، فرفضوا قبولها، حتى يعودوا إلى رسول الله فذكروا الحادثة له، فابتسم ثم قال: قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا فضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ([16]). لقد ظلت ابتسامته تضيء المواطن والقلوب، ولم تنطفئ يومًا، بل إنها لم تنطفئ عن وجهه الكريم حتى في آخر لحظات حياته، فبينما المسلمون في صلاة الفجر لم يفجأهم إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كشف سِتْر حجرة عائشة - رضي الله عنها - فنظر إليهم وهم صفوف فتبسم يضحك ([17]).
------------------------------
([1]) أخرجه الترمذي (1956).
([2]) أخرجه البخاري (3036)، ومسلم (2475).
([3]) أخرجه أحمد (17251)، والترمذي (3641).
([4]) أخرجه البخاري (3662)، ومسلم (2384).
([5]) أخرجه مسلم (2626).
([6]) أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479) واللفظ له.
([7])أخرجه مسلم (2322).
([8])أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (1001)،( 1750) .
([9]) أخرجه البخاري (4418) ، ومسلم (2769).
([10])أخرجه البخاري (3556) ، ومسلم (2769).
([11])أخرجه البخاري (6032)، ومسلم (2591).
([12])أخرجه أبو داود (4792)، وأصله في البخاري (6032).
([13]) أخرجه البخاري (3158)، ومسلم (2961).
([14]) أخرجه البخاري (6093)، ومسلم (897).
([15]) أخرجه أبو داود (2602)، والترمذي (3446) واللفظ له.
([16]) أخرجه البخاري (2276)، ومسلم (2201).
([17]) أخرجه البخاري (754)، ومسلم (419).