يستطيع المراقب لتعامل محمد (صلى الله عليه وسلم) مع المحيطين به أن يلحظ كيف كان يتفاعل مع مجتمعه أفرادًا وجماعات، ويحيا آلامهم ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، ويعدّ نفسه جزءًا لا يتجزأ من مجتمعهم، وربما من أشخاصهم أيضًا.لقد كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يمثل محورًا حياتيًّا مهمًّا لأفراد مجتمعه الذي يحيط به، ورآه الآخرون شخصية لا يمكن أن تُهمَل بحال، بل رأوه مؤثرًا فيهم تأثيرًا كبيرًا لدرجة التغيير الواقع في حياتهم كل على حدهَ، واستوى في ذلك القريب والبعيد، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، ومن صحبه طويلاً ومن لقيه مرة واحدة في حياته، بل قد امتد أثره عبر الأجيال والسنين إلى كل من قرأ سيرته وتتبع أحواله وتعاليمه. ولا شك أن هناك سمات مميزة قد ميَّزت هذا الرجل، وميزت طبيعة تعامله مع غيره من الناس، جعلت الناس يتأثرون به، وجعلته يترك بصماته الواضحة على حياتهم وأفكارهم، نحاول أن نقف معًا على بعضها باختصار.
عندما تثبت صفات الرجل:
كثيرًا ما نصادف أناسًا يتغيرون بتغير الظروف والمواقف التي يمرون بها، وتتبدل صفاتهم وطبائعهم تبعًا لمصالحهم أو منافعهم، أو ربما تبعًا للضغوط التي تُمَارس عليهم أو الحاجات التي هم معوزون إليها، وتتبدل
لغة القلوب:
كان محمد (صلى الله عليه وسلم) بسيطًا غير متكلف، فإذا غضب بان ذلك في وجهه بوضوح وكأنه تفقأ في وجهه حَب الرُّمان([2])، وإذا حزن ظهر الحزن على وجهه، بل ربما يبكي بين أصحابه، وإذا فرح بانت بسماته وسروره حتى يشعروا بالسعادة الغامرة معه. إنه لم يتصنَّع في موقف قط، ولم يكذب في مشاعره قط، وما أن يجلس إليه رجل إلا وتأسره تلك البساطة والتلقائية، بل قد جاء إليه من هو كافر به يبغضه، ثم إذا به يخرج من عنده وهو محب له!كما حدث مع ثمامة بن أثال إذ قال: «يا محمد! والله لقد جئتك وما وجه أبغض إليَّ من وجهك، ولا دين أبغض إليّ من دينك، ولا بلد أبغض إليَّ من بلدك، ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إليَّ من وجهك، ولا دين أحب إليَّ من دينك، ولا بلد أحب إليَّ من بلدك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله»([3]).
ضد الغموض:
الوضوح قرين الصدق، وهو صفة تجمع الناس وتُطمئن قلوبهم، وقد كان محمد e واضحًا في مراداته وضوح الشمس، فلم يكن بالإنسان الغامض الذي لا يعرف أحد دواخله ومنطويات نفسه، بل كان منضبطًا بأوامر ربه تبارك وتعالى، يُرضيه ما يُرضي ربه، ويُغضبه ما يغضبه تعالى.كان يسالم ويحارب، يحب ويكره، يصادق ويفارق. ولكن كان كل فعل من أفعاله منضبطًا بقواعد واضحة، ولا محاباة لأحد كائنًا من كان، فلم يحكم الهوى تصرفاته يومًا، ولم تؤثِّر المصلحة على أحكامه وعلاقاته كما سيتضح تماماً في ثنايا هذا الكتاب.
عفو و إحسان:
هناك من الناس طائفة إذا ظلمت تَرُد الصاع صاعين، وهناك طائفة أخرى ترد بالمثل أخذًا وعطاء، ولكنّ هناك أفرادًا معدودين يتعاملون بالحسنى والإحسان، فإذا ظُلموا غفروا، وإذا أُوذوا صبروا، وإذا مُنعوا أعطوا، وإذا قُطعوا وصلوا، وهكذا كان محمد (صلى الله عليه وسلم)، إنه يحكي عن نفسه أن تلك الأخلاق إنما هي أوامر ربانية قد أُمِرَ بها من ربه؛ كما في قوله: «أُمِرْت أن أعطي من حرمني، وأن أَصِلَ من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني».لقد وصل بمحمد (صلى الله عليه وسلم) تطبيق تلك الصفات حتى إنه كان يرى بعينيه قاتلة عمه المحبب إلى قلبه حمزة بن عبد المطلب t، والتي تآمرت عليه حتى قتلته، ثم مثَّلت به بعد موته، جاءته تعلن إسلامها فإذا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) يعفو عنها ويغفر إساءتها، ويعتدّها أختًا له في الدين، ويبشرها بأن الإسلام يهدم ما قبله، فأيّ قلب يتحمل هذا، وأي نفس تعفو عن تلك؟
------------------------------
([1])صححه الألباني في تعليقه على فقه السيرة (376).
([2]) أخرجه أحمد (6806)، والترمذي (1846).
([3]) أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764).