Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

من أكل أو شرب يظن بقاء الليل ثم ظهر له أنه الصبح ولم يكن ذلك منه عن تفريط فصومه صحيح وهذا نظير قول عدي بن حاتم رضي الله:لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار.متفق عليه

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
al_mawsuaa_maysira.jpg

قبل بعثته ، نظرة عاجلة:
بدت شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) المعتدلة السلمية منذ كان صغيرًا، وبدا مع أولى سني عمره سعيه الدؤوب نحو إنهاء النزاعات والبعد عن تحكيم السيف في الخلافات، سواء كانت الجماعية أو المجتمعية، وأمامنا حدثان مهمان نستدل بهما على ذلك باختصار:

الحادث الأول: حلف الفضول:
في جوّ تسوده قيم الغابة، ويأكل القوي فيه الضعيف، ولا يجد المظلوم ناصرًا له بين الناس نشأ محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) من الضعفاء، بل كان منتميًا لقبيلة قوية وشريفة، ولم يكن مستضعفًا، فجدُّه وعمه من سادات قريش.

إلا أن نفسه تاقت دومًا إلى رفض الظلم ونصرة المظلوم، ويروي أهل السِّيَر أن رجلاً له مظلمة عند أحد أكبر سادات مكة، وهو العاص بن وائل السهمي، وأنه قد أخذ ماله ورفض أن يُعيده إليه، وأن الرجل قد طاف على الناس يريد نصرتهم، إلا أنه لم يجد من يعينه في ذلك؛ خوفًا من مكانة العاص بن وائل.

إلا أن هذا الموقف قد دعا جمعًا من رجال قريش إلى الاجتماع والتعاهد على نصرة المظلوم، وعقدوا تحالفًا سُمِّي بحلف الفضول، وكان من أهمّ بنوده نصرة المظلوم مهما قل شأنه، والأخذ بحقه من ظالمه مهما علا قدره.

لقد كان بين هؤلاء الرجال شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، ولعله كان أصغرهم سنًّا، إلا أن اهتمامه بتلك القضايا من الخير وحب الفضيلة جعله يشاركهم حلفهم، ويشير عليهم بما قد ينصحهم به، كان هذا الشاب هو محمداً (صلى الله عليه وسلم) قبل بعثته.

حتى إذا دارت الأيام وانتصرت دعوته وصار زعيمًا لأمة قوية، لم يتنكر لهذا الحلف رغم أنه كان مع غير المسلمين بل أقرَّه وشجعه، وقال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لو دُعيت به في الإسلام لأجبت»([1]).

الحادث الثاني: بناء الكعبة:
وهذا الحادث أيضًا له دلالة بالغة في رسم ملامح شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة والرسالة.

فقد احترقت الكعبة وتهدمت قبل البعثة، فأراد أهل مكة أن يعيدوا بناءها، وهناك في الكعبة حجر له موضع خاص، ومكانة خاصة عند العرب منذ مبعث إبراهيم عليه السلام هو الحجر الأسود، فقسمت قريش على القبائل أركان الكعبة كل قبيلة تبني ركنًا وجدارًا، وكان ذلك يعد فخرًا للقبائل ويعدُّون المشاركة في الأعمال العظيمة بابًا لخلود الذكر، فكانوا يتنافسون فيها لبلوغ المكارم، ولما جاء دور وضع الحجر ثار خلاف كبير بين القبائل أيهم ينال شرف وضع الحجر في مكانه؛ فيظل ذكره عبر العصور؟!

وكاد الأمر ينتهي بالقتال فاستلَّ كل منهم سيفه ليحسم الأمر له ولقبيلته، ولكن عاقلاً منهم أشار عليهم برأي هو أن يقبلوا التحكيم، ولكنهم اختلفوا حول شخصية الحَكَم، فاقترح عليهم أن ينتظروا أول داخل عليهم فيحكموه بينهم ويقبلوا بحكمه أيًّا كانت شخصيته، وأيًّا كان حكمه فاتفقوا على ذلك.

وأراد الله أن يكون أول داخل عليهم هو محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ففرحوا جميعًا، وقالوا: هذا الأمين رضينا به حَكَمًا.

وهنا وجد محمد (صلى الله عليه وسلم) الدماء الحارة تندفع في عروق أصحابها تنتظر التدفق، ورأى الغضب في الوجوه والسيوف في الأيدي، وقبيلته إحدى القبائل المتنازعة، وكلمة منه قد تشعل الحرب لعشرات السنين، وتتفجر الدماء أنهارًا، وبكلمة أخرى منه تحقن هذه الدماء ويحل السلام والمحبة والتراحم، فهل يختار محمد (صلى الله عليه وسلم) الدم والقتل والدمار أم يختار الحوار وتجنب إراقة الدماء؟

فاختار محمد (صلى الله عليه وسلم) السلام وحقن الدماء، وراح يضع رداءه على الأرض، ويستدعي من كل قبيلة رجلاً، ويوضع الحجر على ردائه، ويتعاونوا جميعًا في حمله؛ فيكون لهم الشرف جميعًا وتحقن الدماء، وقد رضوا جميعًا بهذا الحل الذي حفظ دماءهم، وأزاح الغمة من طريقهم.

وبهذين الموقفين وغيرهما كثير تتجلى لنا وبوضوح تام معالم شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة، والتي يتبين منها رفضه للعنف وبغضه للظلم، وحبه لأداء الحقوق، وسعيه الدائم للسلام وحقن الدماء.

محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد البعثة:
دعا محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الإسلام، واتبعه فريق من أبناء الأُسَر الشريفة والبيوت العريقة في مكة، والباقي من الأَرِقَّاء والضعفاء والعبيد والموالي، وبعد فترة قليلة من جهره بدعوته إذا بأهل مكة يسومونه ومن معه سوء العذاب ، فكم شهدت صحراء مكة المستعرة بلهيب الشمس أجسادًا عارية ألقيت فيها وفوقها الصخور الثقيلة الشديدة، وكم مات منهم تحت التعذيب وفقد الكثير منهم بصره، وجُرح من جرح، وفُتن عن دينه من فُتن، وكان يمر عليهم محمد (صلى الله عليه وسلم) وهم يعذبون ويقول لبعضهم: «صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة»([2]).

والآن نسأل: ألم يكن لدى محمد (صلى الله عليه وسلم) اختيار آخر إلا الصبر والتحمل؟

ألم يمكنه أن يأمر من اتبعه بالقيام بحرب أهلية على من عذبوهم وفتنوهم؟ ألم يكن لديه القدرة أن يجعل الدم يجري أنهارًا في معركة يكون الجميع خاسراً فيها؟1

ألم يكن لديه القدرة أن يجعل الابن يقاتل أباه، والأخ يقاتل أخاه،وهم أصحاب حق؛ فقد أُوذوا وضُربوا وعُذِّبوا بلا ذنب جَنَوه ولا جريمة فعلوها؟

لقد كان لديه هذا الاختيار بالطبع، ولكنه لم يفعل ذلك، بل تسلَّح بالصبر وحسن الخلق والتحبب إلى الناس حتى لو آذوه.

 وأمر أتباعه بذلك وجاءت الآيات في القرآن مؤكدة على هذه المعاني؛ فيقول الله عز وجل:  (النساء: 77)، فالأمر القرآني وتعليمات محمد (صلى الله عليه وسلم) لأتباعه هي كفّ اليد، ومنعها من الرد بالمثل على أي إساءة يتعرضون لها.

 وما أشقّ هذا الأمر على نفس العربي بخاصة الذي لا يرضى أن يُهَان ولا ينتصر لنفسه، ولكنهم امتثلوا لأمره (صلى الله عليه وسلم)، وكفوا أيديهم ومنعوها من أن تمتد إلى غيرهم إلا بالإحسان والصبر والصفح.

ونزل القرآن أثناء ذلك آمرًا بالجهاد، ولكنه جهاد بالكلمة أي بالصدع بكلمة الحق وتبيانه للناس وتبيين أنهم يعبدون حجرًا لا يضر ولا ينفع؛ فقال عز وجل: (الفرقان: 52)، ، قال عبد الله بن عباس: «جاهدهم به أي: بالقرآن».([3])

واختار محمد (صلى الله عليه وسلم) حلاً لأصحابه وهو الهجرة من تلك الديار تاركًا أرضه ووطنه وماضيه وحاضره ومستقبله؛ حقنًا للدماء عندما استحال بقاء الدينين في مكان واحد.

وكان لا بد من الصدام؛ فقد خططوا لقتله والفتك بأصحابه، فاختار الهجرة على ما فيها من ألم ومعاناة ولكنهما لا يقارنان بالألم والمعاناة في سفك الدماء، وتقطيع أواصر العلاقات بين الناس، فاختار الهجرة لأصحابه أولاً إلى الحبشة، ثم اختار الهجرة لنفسه ولبقية أصحابه إلى يثرب التي عُرفت فيما بعد بالمدينة المنورة.

أفشوا السلام:
كان أول ما واجهه في يثرب الخلاف القبلي المستحكم بين أهل يثرب المكونين من قبيلتين هما الأوس والخزرج،وكانت بينهما حروب طويلة آخرها حرب بعاث التي امتدت إلى أكثر من أربعين عامًا متتالية، وراح ضحيتها الكثير من أبناء القبيلتين.

فعمل أولاً على الصلح بين القبيلتين، وإزالة الخلاف بينهما، وحال دومًا دون الرجوع إلى القتال، حتى إنه كان يخمده إذا ما حاول أحد أن يثيره من جديد.

فكان سعيه الدائم (صلى الله عليه وسلم) إلى نزع فتيل الأزمات وحقن الدماء والصلح بين القبائل، فهو لم يبعث للحرب وبالحرب بل بعث بالسلم والأمن والطمأنينة، وهذا ما قاله في أول يوم وطئت فيه أقدامه يثرب، فيقول عبد الله بن سلام t وكان حبرًا من أحبار اليهود قبل أن يسلم: لما قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة انجفل الناس إليه، وكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: «يا أيها الناس!، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»([4])، فالسلام والأمان غاية ومطلب محمد (صلى الله عليه وسلم)، وغاية وهدف هذا الدين.

ومن ثم فعندما وصل محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة سعى إلى عقد الصلح بالأمان لأهلها ولجميع قاطنيها؛ سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم من اليهود أو عَبَدة الأوثان، فعقد معاهدات أولاً بين المسلمين أنفسهم حتى لا يثور خلاف بين المهاجرين والأنصار، أو بين الأنصار أنفسهم متمثلين في قبيلتي الأوس والخزرج، وفيما يلي نص بعض بنودها ملخصًا‏: ‏

هذا كتاب من محمد النبي (صلى الله عليه وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم‏:‏

1- «أنهم أمة واحدة من دون الناس» يعني: أنهم جميعًا أمة واحدة، وتعني: أن يعطي المسلم الولاء الكامل للدولة الإسلامية.

2- «المهاجرون من قريش على رِبْعَتِهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدُون عَانِيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين»،‏ ‏أي: أن المهاجرين يتحملون الدية وحدهم إذا كان القاتل مهاجريًّا، ولا إلزام على الأنصار والعكس.

3- «وأن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل»،أي: يساعد بعضهم بعضًا إذا كان أحدهم ذا حاجة.

4- «وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم([5]) أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين»، أي أنهم لا ينصرون الظالم حتى لو كان منهم بل يكونوا عليه وليسوا معه فالإسلام ضد الظلم بأشكاله كافة.

5- «وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم»، أي: أن يتعاونوا ضد الظالم حتى لو كان ابنًا لأحدهم.

6- «وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم»، أي: أن أي اتفاق يتفق عليه واحد من المسلمين فلا بد أن يتم، فإن عاهد أحدهم رجلاً وأمَّنه على نفسه أو ماله فلا يمكن لمسلم أن يصيبه بسوء، حتى لو كان المسلم المعاهد أدنى رجل من المسلمين فلا يرد عهده.

7- «وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم» أي: أنه (صلى الله عليه وسلم) يشترط عليهم أن يعقد عهودًا مع اليهود، وأن من سيدخل معه في العهد سيكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويشترط (صلى الله عليه وسلم) عليهم ألا يُظلم اليهودي المعاهد في ديار الإسلام.

8 - «وأن سلم المؤمنين واحد؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم».

9 - «وأنه من اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول»، أي: إذا قتل مسلم مسلمًا، فيحكم عليه بالقتل جزاء بما فعل إلا أن يتنازل ولي المقتول ويقبل الدية.

10- «وأنكم مهما اختلفـتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله                    - عز وجل - وإلى محمـد(صلى الله عليه وسلم)‏»([6]) أي: أن الجهة التي يجري التقاضي إليها عند النزاع في هذه البنود، والتي يجب عليهم طاعتها هي حكم الله وحكم رسوله (صلى الله عليه وسلم).

   ثم بعدها عقد معاهدة مع اليهود الذين يسكنون المدينة مع المسلمين، وهي تقوم على أساس مبدأ المواطنة، وهي بمعنى: أنهم جميعًا أبناء لوطن واحد مشترك ينبغي عليهم جميعًا الدفاع عنه إذا تعرض لهجوم من خارجه، وأن يكونوا يدًا واحدة على عدوهم، يسالم من يسالمون، ويحارب من يحاربون. ونلاحظ تشابهًا كبيرًا بين بنودها وبنود المعاهدة السابقة أي: أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لم يفرق بينهما إلا في جريان حكم الإسلام على المسلمين فقط، ولم يظلمهم في شيء، وهذه بعض بنودها:

1- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود‏.

2- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏.‏

3- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏.‏

4- وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم‏.‏

5- وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه‏.‏

6- وإن النصر للمظلوم‏.‏

7- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏.‏

8- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏.‏

9- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)‏.‏

10- وإنه لا تُجَار قريش ولا من نصرها‏.‏

11- وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلهم‏.‏

12- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم([7])‏.‏

ثم عقد بعد ذلك كثيرًا من المعاهدات مع القبائل، ونذكر منها على سبيل المثال:

- معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه، وهذا نص المعاهدة‏:‏ ‏«‏هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا دين الله، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه».

- ومعاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة‏ ذو العشيرة.

- ومعاهدة مع قبيلة جهينة، وهم يسكنون منطقة العيص على ساحل البحر الأحمر وكان نص المعاهدة ما يلي:

«أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم من بر منهم واتقى ما لحاضرهم»، أي: أن هذه المعاهدة شاملة لأهل البادية وأهل الحواضر منهم.

فمن هذه المعاهدات الكثيرة يتبين لنا مدى ما كان من سعي محمد(صلى الله عليه وسلم) إلى إقرار السلام فيما حوله من القبائل والجيران وغيرها.

بل إن هناك جانبًا آخر يحق لنا أن نذكره، وهو أنه كان إذا خُيّر بين الحرب وبين السلام والموادعة اختار السلام.

بل كان يبحث عن السلام دومًا، ففي غزوة الأحزاب جاءت قريش ومعها قبيلة غطفان وغيرها، وهاجموا المدينة بأكثر من عشرة آلاف مقاتل، وهم أكثر عددًا من سكان المدينة برجالهم ونسائهم، فأراد محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يتجنب الحرب وإراقة الدماء،يقول المؤرخون ورواة الحديث: إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يصالح عيينة بن حصن، والحارث بن عوف- وهما رئيسا غطفان- على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما، وجرت المفاوضة على ذلك، واستشار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السعدين - ويقصد بهما: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما سيدا أهل المدينة -  فقالا: إن كان الله أمرك فسمعًا وطاعة. وإن كان شيئًا تصنعه لنا فلا، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة، إلا قِرًى – أي: للضيف - أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ فقال محمد (صلى الله عليه وسلم): «إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة»([8]).

الصلح:
في العام السادس للهجرة اشتاق المسلمون إلى بيت الله الحرام، وأحبوا أن يطوفوا ويعتمروا، ولهم الحق في ذلك كأي عربي داخل مكة وخارجها؛ بحسب قوانين ذلك الزمان، ولو كانت للقرشيين فقط فمحمد(صلى الله عليه وسلم) ومعه مجموعة كبيرة هم من القرشيين والأمر لا يحتاج إلى استئذان من أهل مكة للقدوم للاعتمار أو الحج؛ لأنه لم يتوقف منذ عهد إبراهيم عليه السلام.

فتجهز محمد (صلى الله عليه وسلم) للذهاب إلى مكة للاعتمار وتجهز معه المسلمون، وكانوا قريبين من ألف وأربعمائة مسلم، ولم يحملوا معهم سلاحًا؛ لأنهم لم يخرجوا لقتال، ولكنهم فوجئوا بأن أهل مكة يتجهزون للقتال ولمنعهم من الاعتمار والدخول إلى مكة، وتحيَّر المسلمون لهذا الموقف؛ لأنه ما حدث مثله لعربي قط من قبل ذلك أن يمنع من دخول مكة والطواف بالبيت الحرام.

واختار محمد (صلى الله عليه وسلم) طريقًا آخر لا تعترضهم فيه جيوش أهل مكة، وليتفادى الاشتباك والحرب، فسلك طريقًا وعرة عبر منطقة تسمى «ثنية المرار - مهبط الحديبية»، وهنا توقف محمد (صلى الله عليه وسلم) خارج مكة، فهو لا يريد القتال، ولم يأت مريدًا له، وقال لأصحابه: «والذي نفسي بيده لا يسألونني- يعني قريشًا - خُطة يُعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها»، وفي رواية أخرى للحديث: «والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها»([9])..

ورغم عدوان قريش وكبريائهم فقد ظل محمد (صلى الله عليه وسلم) حاقنًا لدمائهم، وقال: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون»([10]).

ففكر أن يرسل إليهم مبعوثاً من المسلمين ليوضح لهم حقيقة الأمر؛ فاختار أحبّ رجل منهم لقريش عثمان بن عفان t، وتأخر عثمان عندهم ومنعوه من العودة، وسرت شائعة أن قريشًا قتلت عثمان t، وقتلُ الرُّسُل في عُرف العرب هو إعلان لحالة الحرب، وتأهب أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) للمواجهة.

وأرسلت إليهم قريش رسلاً يهددونهم ويخوفونهم، وعرضوا معاهدةً شروطُها مجحفة للمسلمين، ولكن كان فيها حقن للدماء، فقبل بها محمد (صلى الله عليه وسلم) برغم الإجحاف الذي فيها، ويهمنا ها هنا التعرض السريع لبعض بنود تلك المعاهدة التي وافق عليها محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ لكونها تدعو إلى السلام برغم ما بها من شروط مجحفة للمسلمين:

فأول شروطها: رجوع محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من عامهم ذلك وعدم دخول مكة، وإذا كان العام القادم دخلها المسلمون بغير سلاح إلا ما يكون للراكب.

وثاني الشروط: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس.

وثالثها: من أتى محمدًا (صلى الله عليه وسلم) من قريش فعليه أن يرفضه ويرده إليهم، ومن أتى إلى قريش من عند محمد (صلى الله عليه وسلم) ليس عليهم أن يردّوه إليه.

فإذا نظرنا إلى تلك الشروط وجدنا معظمها في ظاهرها في صالح قريش، فالشرط الأول يحرم المسلمين من دخول مكة، وهم على بعد أميال قليلة منها، وكم كان هذا شاقًّا بالنسبة للمسلمين، والشرط الثاني وضع الحرب عشر سنوات، وهذا في مصلحة قريش التي ضعفت قوتها بعد حربها لمحمد (صلى الله عليه وسلم) وإسلام أبنائها وانضمامهم إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)، والهدنة الآن في مصلحة قريش كي تستعيد توازنها وتسترد قوتها، والشرط الثالث فيه إجحاف شديد؛ لأنه يُلزِم المسلمين بإعادة من جاء إليهم مسلمًا من أهل مكة،ولا يُلزِم أهل مكة بالشرط نفسه.

كل الظروف والشروط كانت تدفع بمحمد (صلى الله عليه وسلم) إلى رفض هذه المعاهدة لشروطها المجحفة، واشتد الأمر على المسلمين؛ إذ يرون محمدًا (صلى الله عليه وسلم) يميل إلى قبول هذا الصلح، ويوشك أن يوقع هذا العهد، وزاد الأمر شدة لحظة مجيء رجل مسلم جاء هاربًا من أهل مكة بعدما عذبوه وحبسوه، وكان هذا الرجل ابنًا لسهيل بن عمرو الذي جاء للمفاوضة، ورغم أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لم يوقع المعاهدة إلى الآن، إلا أن سهيلاً قد اشترط أن يكون ابنه أول تنفيذ للمعاهدة بأن يسلمه محمد إليه.

ماذا يفعل محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ إنَّ سُحَب الحرب تلوح في الأفق، ورائحة الدم تقترب من الأنوف، ولكن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قَبِلَ المعاهدة ووافق على الشروط حقنًا للدم، ولما كان فيها من مسالمة وأمان للناس جميعًا، ولما فيها من نبذ الحرب وحسن الجوار، وجلس مع سهيل بن عمرو لتتم كتابة بنود المعاهدة، ويوقعا عليها، ويشتد الاستفزاز على مشاعر المسلمين حين يأبى سهيل بن عمرو كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، فيقول: اكتب باسمك اللهم، ويرفض كتابة: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله، فيقول له: لو أعلم أنك رسول الله ما قاتلتك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فيوافق محمد (صلى الله عليه وسلم) على كل البنود، وعلى شروط الصلح الشكلية والموضوعية، بل ويرد الصحابي أبا جندل t كما طلب سهيل بن عمرو.

إن هذا الموقف الشديد الذي تعرض له محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يوافق على هذا الصلح ؛ ليدل على أبعاد في شخصيته التي كانت ترفض الحرب وتحب السلام، ولو دفعت ثمنه غاليًا.

التعامل مع الأقليات في المجتمع الإسلامي:
عاش محمد (صلى الله عليه وسلم) السنوات العشر الأخيرة في حياته قائدًا لدولة شابة فتية صاعدة، فكيف كان حال الأقليات معه في دولته؟

كرامة الإنسان:
الناظر إلى الرسالة المحمدية يجدها قد حفظت كرامة الإنسان، ورفعت قدره، فالناس كلهم بنو آدم؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وقد كرم الله بني آدم جميعًا؛ فقال سبحانه: (الإسراء: 70) ؛، فالجميع لهم الحقوق الإنسانية بوصفهم بشراً أمام ربهم، وإنما يتميز الناس عند ربهم بمدى تقواهم وإيمانهم وحسن أخلاقهم، وكم كان حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) على إبراز هذا المعنى الإنساني واضحًا في تعاملاته وسلوكياته مع غير المسلمين.

ففي الحديث الثابت قول محمد (صلى الله عليه وسلم): «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تُخلِّفكم»، فمرت به يومًا جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: «أليست نفسًا؟!»([11]).

وكان محمد (صلى الله عليه وسلم) ربما عاد المرضى من غير المسلمين؛ فقد زار النبي (صلى الله عليه وسلم) أبا طالب وهو في مرضه، كما عاد الغلام اليهودي لما مرض([12]).

وحرص على القيام بحقوقهم في الجوار فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»([13])، فشمل حديثه كل جار حتى لو كان من غير المسلمين.

ولم يأت محمد (صلى الله عليه وسلم) ليسلب الحرية من الذين لم يتبعوه، بل قد تعامل معهم بتسامح نادر الحدوث، يقول الفيلسوف الألماني «جوته»: «ولا شك أن التسامح الأكبر أمام اعتداء أصحاب الديانات الأخرى، وأمام إرهاصات وتخريفات غير الدينيين، التسامح بمعناه الإلهي، غرسه رسول الإسلام في نفوس المسلمين، فقد كان محمد المتسامح الأكبر، ولم يتخذ رسول الإسلام موقفًا صعبًا ضد كل الذين كانوا يعتدون عليه بالسب أو بمد الأيدي، أو بعرقلة الطريق وما شابه ذلك، فقد كان متسامحًا؛ فتبعه أصحابه وتبعه المسلمون، وكانت وما زالت صفة التسامح هي إحدى المميزات،والسمات الراقية للدين الإسلامي، وللحق أقول: إن تسامح المسلم ليس من ضعف؛ ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه، وتمسكه بعقيدته»([14]).

ويقول الكاتب والقس الألماني «ميشون»: «لقد أعفى محمد البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب وحرم قتل الرهبان - على الخصوص- لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد تلقى الأوروبيون عن المسلمين روح التعامل وفضائل حسن المعاملة»([15]).