وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: خرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى خيبر أخدمه فلما قدم النبي (صلى الله عليه وسلم)راجعاً وبدا له أحدٌ قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه". ثم أشار بيده إلى المدينة قال: "اللهم إني أحرّم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صَاِعنا ومُدِّنا" ([1]).
مظهر الرحمة:
لا أحد يتصوَّر أن الجماد يحمل في طيَّاته معنى الحبِّ، لولا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخبر بذلك. وكم يحنُّ الإنسان إلى الأرض ويتعلَّق بالرّباع، ويشتاق إلى الوطن ولا تثريب؛ لكن أن ينطلق ذلك من الجماد نفسه؟! إنها معادلة تجسِّد وحدة هذا الكون في عبوديته لله تعالى.)..قَالَتَا
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي(صلى الله عليه وسلم) فوضع يده عليها فسكنت ([2])، وفي لفظ آخر:"فضمَّها إليه تئنُّ أنين الصَّبيِّ الذي يسكن"([3]).
مظهر الرحمة:
إن هذه المواساة في المصيبة حتى للجماد تحقِّق معنى العبودية. وحين تتجلَّى في ضم الجذع. ماذا نتصوَّر في ضمِّ الصبي واليتيم، وتقصِّي أحوال الملهوفين ؟
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لمكة: " ما أطيبكِ من بلدٍ وأحبَّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَك " ([4]).
مظهر الرحمة:
إن البقاع لا تقدَّس لذاتها وإنما لِما تنطوي عليه من معنى. ولِما جمعته من ذكريات عليا؛ فمهبط الوحي ومسرى النبي (صلى الله عليه وسلم) ومطاف الأنبياء ومَعْلم التوحيد وقِبلة المسلمين أحبَّها النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) لذلك. ولا ضير فهي البلد الذي شبَّ فيه وترعرع، ولا غرابة أن يفصح عن الحب ويبين لوعة الفراق، فكأنه يواسي الجبال والدور.. لماَّ غادرها الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
------------------------------
([1]) البخاري، ح (2732)، ومسلم، ح (1365).
([2]) البخاري، ح (3392).
([3]) البخاري، ح (3391).
([4]) الترمذي، ح (3926)، وابن حبان في صحيحه، ح (3709)، وصححه الألباني، مشكاة المصابيح، ح (2724) 2/115.