Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

عن ابن عمر وعائشة (رضي الله عنهما) قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري. يعني من عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية
m001.jpg

هذا الدين دين الجماعة والرحمة، كان أعظم داعية فيه محمدٌ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كان رجلَ عامَّةٍ لم تأخذه الخاصة عن بسط الذات للناس. وهذا مدخل عظيم لمعرفة أحوال الناس، وتقدير ظروفهم عند التكليف، وفهم نفسياتهم عند المعاملة..فأعظم أسس علم الاجتماع جاءت في الشريعة الإسلامية ومن كلام النبي (صلى الله عليه وسلم): " من أحبَّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس إلى يحب أن يؤتى إليه"([1]).

ولقد اشتمل هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) في سيرته مع كل طبقات الناس وإنزالهم منازلهم حتى ظن بعضهم أنه أحبُّ الناس على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما يرى من شدة الاهتمام، والتلطف والإقبال أتاح له ذلك التفرُّس في خصائص النفس، ومعرفة الثغرات التي يجب على المربي ملؤها.. والمداراة لأشخاص جُبِلوا على بعض الصفات المنفِّرة.

مراعاته (صلى الله عليه وسلم) الجانب الاجتماعي:

v عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن. فقال: للناس تقدَّموا فتقدَّموا ثم قال: لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقتُه، فسكت عنى حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره فقال: للناس تقدَّموا فتقدَّموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك. (فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال فقال لتفعلن)، فسابقتُه فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك" ([2]).

مظهر الرحمة:

بهذه الروح الدعابية، والشفافية الإنسانية.. برغم ضخامة المسؤوليات يضرب النبي (صلى الله عليه وسلم) المثل في التعامل مع المرأة التي كثيراً ما تحتاج إلى الإنصاف العاطفي.. ففي الوقت الذي يَغرَقُ بعضنا في مشاغله عن أهله. يتحيَّن من الفرص لتعويض أهله وأسرته بشيء من المزاح والترفيه المباح.

v وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا... قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع أَناسَ من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح... قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا، وأخذ خطيا وأراح علي نعم ثريا، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. قالت: لو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر أنية أبي زرع. قالت عائشة: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): كنت لك كأبي زرع لأم زرع" ([3]).

مظهر الرحمة:

هذا المثل في جوامع الصفات الحميدة، يدل على أنه (صلى الله عليه وسلم) جمع لها أفضل ما يمكن أن يضعه رجل لأهله. وفي الاستماع لحديث المرأة، والنزول إلى مستوى الهمِّ الشخصي للناس، كالحديث عن الأزواج وأساليبهم في التعامل. وفيه من إدخال السرور بالمرأة ما يُعَدُّ مظهراً من مظاهر الرحمة بها.

مراعاته (صلى الله عليه وسلم) الجانب الدنيوي:

هذا باب من أوسع الأبواب في الشريعة. فهي وإن أعطت الضوابط العامة والقواعد والأصول فقد تركت مساحة كبرى للمتغيرات، يدخل فيها أحوال الناس، واختلاف الزمان والمكان، وأحالته على أصحاب الرأي، وما تعارف عليه الناس وما اعتادوه من أسلوب حياتهم؛ ما دام في الإطار العام للشريعة. وهذه رحمة عامة؛ لأنها تتحرك مع الناس في كل تقلُّباتهم وتحمُّلهم مسؤوليةَ اختيارهم؛ لئلا يظنوا أن الشريعة أغلقت عليهم منافذ الحركة في شئونهم الدنيوية ولعلماء الأصول في هذا الباب فرائد رائعة، تدل على سعة الشريعة، واستيعابها كلَّ المتغيرات.

v عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: سمع رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) أصواتاً فقال: ما هذا؟ قالوا: يلقحون النخل. فقال: لو تركوه فلم يلقحوه لصلح، فتركوه فلم يلقحوه، فخرج شيصًا. فقال النبي :(صلى الله عليه وسلم) ما لكم؟ قالوا: تركوه لما قلت. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإليَّ" ([4]).

مظهر الرحمة:

وهذا نموذج لما سبق من توسيع مجال التحرك البشري في أمور دنيوية بحتة، لئلا يتأثموا حين المخالفة للرأي النبويِّ المجرد.

مراعاته (صلى الله عليه وسلم) الجانب السياسي:

نجاحُ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) في كلِّ الأصعدة دليلُ وفائِه بكل مطالب الحياة، فقد كانت علاقاته بأصحابه ومع مخالفيه قمة الإنسانية والرحمة، في إتاحة الفرص للرأي، وعدم الاستبداد في المواقف، وهذا من الرحمة بالأمة؛ لأن الأمر الذي يتعلَّق بعامة الناس واتخاذ القرار فيه من الخطورة بمكان. فكان (صلى الله عليه وسلم) يحرص على أن لا يخاطر بالأمة أو يتفرد باتخاذ موقف وقرار مصيريٍّ إلا وأدخل معه ذي الرأي والحجا..

ومن تأمل خطاباته (صلى الله عليه وسلم) مع ملوك زمانه واستقباله الوفود.. وتنظيم شؤون أمته أدرك المعنى الحقيقي لأصول السياسة الشرعية في الإسلام، وما تنطوي عليه المعاهدات والعقود من الوضوح في بُنُودِها وتقديرها لأحوال الناس والرحمة بهم جميعاً.

قال الله تعالى: )... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ.. ( [آل عمران: 15] .

قال الطبري: " إن الله عز وجل أمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يُؤمَن عليه معها فتنة الشيطان وتعريفاً منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها؛ ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم كما كانوا يرونه في حياته (صلى الله عليه وسلم) يفعله، فأما النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخٍ للحق، وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى فالله مسدِّدهم وموفقهم" ([5]).

v وروي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: " ما رأيتُ أحدًا أكثر مشورةٍ لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)" ([6]).

قال الحسن: " ما تشاور قومٌ قطُّ بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم -وفي لفظ- إلا عزم الله لهم بالرُّشدِ أو بالذي ينفع " ([7]).

وقال قتادة: "ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هُدُوا لأرشد أمرهم" ([8]).

مظهر الرحمة:

لا غرابة في استشارة أحدِنا لغيره ولكن أن يستشير نبيٌّ يوحى إليه فإن في هذا من التعليم والتربية شيء عظيم، وكذلك تعويد الناس تحملَ النتائج التي شاركوا في صنع قراراتها، وهم أدرى بقدراتهم وأحوال قومهم حين يُدْلُون برأيهم، وهذا غاية في استطلاع الرأي العام من خلال قنوات أهل الحل والعقد والمشاهير في القوم، وهذا الإلماح إلى سرِّ التوفيق والنجاح. (قوم يبتغون وجه الله). وهذا ميزان يضبط الآراء والمقاصد.

v وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض (يعني الباب)، وجعلت لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة " ([9]).

مظهر الرحمة:

مع رغبة النبي (صلى الله عليه وسلم) في فعل الأفضل، فإنه رحم حالَ أصحابِه الذين لديهم تعظيم للبيت، وكذلك لم يتعمَّق الإسلام في نفوسهم بشكل تؤمن معه الفتنة ترك التعرض للكعبة بشيء من التغيير ولو بفتح باب في المقابل. وهذا من مراعاة المصالح والمفاسد، وقدّم حال الناس على الأفضل في الشريعة؛ لأن ذلك قد يدرك في الزمن القادم، وحين تستقر الأحوال ولكن الإيمان الذي لا يزال غضاًّ إذا تعرض لشيء من الإرباك قد لا يعوَّض.

v وعن أبي بكرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال:" لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة " ([10]).

مظهر الرحمة:

هذا الحكم منبعث من الرحمة بتلك الأمة وبهذه المرأة؛ لأن المشقَّة سوف تلحق الطرفين حين تتولى المرأة شؤون الحكم فهو تحذير يتضمَّن النهي للمسلمين؛ لئلا تقتحم المرأة في مجالات تشقُّ عليها، وعلى الأمة من ورائها.

مراعاته (صلى الله عليه وسلم) الجانب النفسي:

في كل المؤثرات النفسية تجد للنبي (صلى الله عليه وسلم) منهجاً يهتدي به السالكون.. وحيث كان بشراً سوياً، ونبياً رحيماً جعل نصيب النفوس واصطحاب الحالات الفردية ممازجاً للعبادات الشرعية، حين يكون الأمر جماعياً، أما حين ينفرد الإنسان فشأنه في نفسه.

v عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إذا صلَّى أحدكم للناس فليخفّف، فإن في الناس الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء" ([11]).

v وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إني لأدخل الصلاة أريدُ إطالتَها فأسمع بكاء الصبي، فأخفِّفُ من شدَّة وجْدِ أمِّه به"([12]).

مظهر الرحمة:

إذا كان شأن الصلاة عظيماً وهي صلة بين العبد وربه فإن مراعاة حال المصلين أو من تعلَّق بهم مدعاة لاختصار هذا الاتصال؛ لئلا تقع النفس في صراع بين أمرين: تعظيم قدر الصلاة، وقوة العاطفة الأبوية حين يبكي صغيرها.. فهذا التفاعل منه (صلى الله عليه وسلم) مع الموقف يؤكِّد لنا مدى الرحمة التي تحلَّى بها (صلى الله عليه وسلم) لتكون مظهراً يقتدي به.

v وعن عبد الله بن عامر (رضي الله عنه)، قال: "دعتني أمي ورسول الله (صلى الله عليه وسلم)قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها (صلى الله عليه وسلم): ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها: أما أنك لو لم تعطِه شيئا كُتبت عليك كذبة " ([13]).

مظهر الرحمة:

الصغير من أشد الناس ضعفاً نفسياً، وتعلُّقُه بما لدى الآخرين شديد، فكيف إذا كان عن موعدة وُعِدَ بها.. لذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حريصًا على أن يطمئن ويؤكد حقَّه في الوفاء؛ لتعلق نفسه وشوقها لهذا العطاء.. رحمةً بالصبي.

v وعن أسامة بن زيد (رضي الله عنه) قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وسلم) فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياًّ لابنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثقل فبعثت أمه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) إن ولدى في الموت فقال للرسول: اذهب فقل لها إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فرجع الرسول فأخبرها، فبعثت إليه تقسم عليه لما جاء فقام النبي (صلى الله عليه وسلم) في نفر من أصحابه منهم سعد بن عبادة، فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) الصبيَّ فوضعه بين ثندوتيه، ولصدره قعقعة كقعقعة الشنة فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال سعد: أتبكى أنت رسول الله؟ فقال: إنما أبكى رحمة لها إن الله لا يرحم من عباده إلا الرُّحماء"([14]).

مظهر الرحمة:

إن هذا التوازن العظيم في شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) إذ جمع بين استقبال الحديث بالصبر والرضى ومواساة المرأة بالبكاء على طفلها؛ بل ورحمة بالميت نفسه وهي صورة قلَّ أن نجدها إلا في الأسوياء ومعتدلي النفس والمزاج. وهذه أكملُ صور المواساة.

v وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول:" جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فاستأذنه في الجهاد. فقال: أحيٌّ والداك. قال: نعم. قال: ففيهما فجَاهِدْ " ([15]).

مظهر الرحمة:

قد يظن بعض الناس حصر الجهاد في الغزو.. ويهمل مصالح أخرى متعينة عليه شخصياً مثل برِّ الوالدين. ففي هذا التوجيه الكريم تتجلَّى نظرةُ النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أحوال الأمة، وتلمُّس حاجاتهم، وتحقيق مصالحهم حين أمر الرجل بأن يجاهد؛ لكن في والديه.

v عن بريدة (رضي الله عنه) قال: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وإنه ردَّها فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لمِ َتردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا فوالله إني لحبلى. قال: إما لا فاذهبي حتى تلدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه. فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبيَّ الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله (صلى الله عليه وسلم) سبَّه إياها فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفنت" ([16]).

مظاهر الرحمة:

اشتمل هذا الحديث على صور متألِّقة من العناية بالصغير والكبير، فإن الطفل وما يحتاجه من عناية في صغره وما ينطوي عليه قلب والدته من الحنان والرحمة والخوف على المصير جعل النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) يدافعها حتى تأكَّد من استقلال الصبي في بعض الأمور، واطمأنَّ على طِيب خاطرِها في تحويل حضانته إلى غيرها.

وكونه عَهِدَ به إلى من يتولَّى أمورَه كلها مواقف تنضح من المشاعر الفيَّاضة ما تعجز عنه كلُّ العبارات في المواساة والرحمة والإحسان، ثم تزكيته لتوبتها وإنكاره على من سبَّها، ثم الصلاة والدفن.. إنها معالم حيَّة تتابع الإنسان حتى بعد مماته حفظاً لحقِّه، ودرأَ الشماتة به.

v وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غيَّر اسمَ عاصية، وقال:" أنت جميلة " ([17]).

مظهر الرحمة:

مما لا يخفى أثر الاسم القبيح على نفسية الإنسان؛ بل وانعكاسه على تصرفاته في المستقبل، ولم يكن عند الناس في ذلك الزمن شيء من الفقه بحُكم الجبلة والطبيعة التي كانوا يعيشونها، والجانب النفسي والاجتماعي من أقوى الضغوطات التي يواجهها الإنسان، والأسماء من أكثر الأشياء ملازمة لصاحبها، فإذا اقترن الاسم بشيء مكروه، أو ذكريات سيئة، أو تزكية مفرطة رجع على صاحبه بأثر سيئ، فجاء الهدي النبوي رحمةً بالناس، وتقديراً لمشاعرهم فغيَّر الأسماء ذات الدلالة السيئة، أو التي تقترن بأحداث مشؤومة حتى لا يبقى لها أثر على المرء وليس له بها جريرة.

v وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): " السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل والصائم النهار" ([18]).

مظهر الرحمة:

إذا كانت العبادات المحضة من مقامات العبَّاد والصالحين فثمَّة لفتة نبوية توحي بأن أبواب الخير كثيرة مشرعة، وأن للناس همم وقدرات وميول، فمنهم من يفتح له في باب دون آخر، ومنهم من تتعصَّى عليه نفسه في باب وتقبل في باب، فهذا الساعي على الأرملة والمسكين قُرِن بثواب المجاهد الذي فارق الوطن والأهل، وقد يفارق الحياة أو كالقائم ليله صلاة الصائم نهار لله؛ كل ذلك لما في هذا العمل الإنساني من الرحمة والإشفاق على هذا الصنف من الناس: الأرامل والمساكين.

مراعاته (صلى الله عليه وسلم) جانب الشَّهوة:

v عن أبي أمامة (رضي الله عنه): أن فتىً شابًّا أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه. فقال: أدنُه فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك. قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك. قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك. قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمَّتك. قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك. قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجَه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" ([19]).

مظهر الرحمة:

إن بركانَ الشَّهوة، وهيجَانَ فورة الشباب، وجرأة المراهقة قد تحمل الإنسان على خطوات الهلكة، ولكن حين نعترف بها نعترف بها ونقدِّرُها بحجمها، ونُوجِدُ المصارفَ لها، ونتحاور في إطار محفوف بالكرامة، وإثارة كوامن الغيرة، وتمثيل الفِعلة شاخصة للعيان، بهذا سوف تتحول هذه التطلُّعات إلى هدوء واستقرار ورضى.

فقد قدّر النبي (صلى الله عليه وسلم) لهذا الشاب جرأتَه وصراحتَه، واستوعب حالتَه، فصرف له العلاجَ الذي تحقَّقت به رحمته، فلو وقع في الزنا لشقِيَ وتَعِس وهَلك.

مراعاته (صلى الله عليه وسلم) الجانب العبادي:

v عن طلحة بن عبيد الله (رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أهل نجد ثائر الرأس يُسمع دويُّ صوته ولا يُفقَهُ ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليَّ غيرها ؟ قال: لا إلا أن تطوَّع. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): وصيام رمضان. قال: هل عليَّ غيره؟. قال: لا إلا أن تطوَّع. قال: وذكر له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الزكاة. قال: هل عليَّ غيرها ؟ قال: لا إلا أن تطوَّع. قال فأدبر الرجل وهو يقول" والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أفلح إن صدق" ([20]).

مظهر الرحمة:

إنَّ عِلمَ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم) بأحوال الناس، وتقديرَ الظروف، وفهمَ النفسيات جعلته (صلى الله عليه وسلم) لا يتفاجأ بأيِّ طارئ يحدث على خلاف المألوف، حيث استقبل كلامَ الأعرابي بكلّ تفهُّمٍ وسماحةٍ ورحمةٍ .. واكتفى منه بتحقيق النصاب، وهو الاقتصار على الفرائض.. وهذه نكتة لطيفة حين نقبل من الناس رأس المال ونعذُرُهم في الأرباح.. وفي هذا من لطف التكليف، وتشجيع الآخرين على تحمُّل كلِّ الأطياف ما دامت في دائرة الشريعة العامة.

v وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يملَّ حتى تملُّوا، فإن أحبَّ العمل إلى الله أدومُه وإن قلَّ " ([21]).

مظهر الرحمة:

قد يبدو للإنسان في أول الهمة والنشاط والشّرة أنه قادر على أعمال كبيرة وكثيرة، ولكن مع طولِ الوقت، وتكاثرِ الأعمال، وتقلُّباتِ الزمان قد يتسرب إليه المللُ أو الضَّجرُ والفتورُ، فيختار من الأعمال ما يطيق حتى لا ينزعج من فوات بعض المردات، وتحوُّل الهمم. أوصى النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن يكون الإنسان معتدلاً في أعماله حتى لا ينقطع، وحتى لا تذهب نفسُه حسراتٍ على ما فات من همّة كانت عالية.

v وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" ([22]).

مظهر الرحمة:

على القادة والعظماء أن لا يحملوا الأمة على ما يطيقون، وهكذا كان نبيُّ الرحمة (صلى الله عليه وسلم) يتخلف عن بعض السرايا خوف المشقة على الناس ورحمة بهم حين يكلفون أنفسهم مجاراتِه وحبَّ رفقته. ثم بيَّن قدرته على ذلك وتمنِّيه لولا مراعاة أحوال الناس ورحمة بهم، فكم هم الذي يتطلَّعون إلى المقامات العليا، ولكن تحُول ظروفُهم الصحية أو الاجتماعية أو المالية أو السياسية دون تحقيق المراد.

v وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قَدِمَ مكة وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر"([23]).

مظهر الرحمة:

وهذا مشهد عملي معبّر حين ترجم النبي (صلى الله عليه وسلم) موقفَه بجواز الفطر في رمضان للمسافر مع كونه يطيق ذلك؛ ولكن لئلا يتحرَّج من يجد مشقةً في الصيام، وهذا فيه جانب نفسيٌّ وصحيٌّ أيضاً.. ثم ترك الأمر للناس.. وما يختارُ كلُّ امرئٍ لنفسه.

 

--------------------------------------------------------------------------------

([1])مسلم، ح (1844).

([2]) أحمد في المسند، ح (26320) 6/264، وما بين القوسين للنسائي في السنن الكبرى، ح (8945)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة، ح (131) 1/254.

([3])البخاري، ح (4893)، ومسلم، ح (2448).

([4])مسلم، ح (2363)، وأحمد في المسند، ح (12566) 3/152، واللفظ له.

([5])تفسير الطبري 3/494.

([6])الترمذي، ح (1714)، وضعفه الألباني، ضعيف الترمذي.

([7])فتح الباري، ابن حجر 13/340.

([8])الكلم الطيب، ابن تيمية، ص 115.

([9])البخاري، ح (1507، 126) ، ومسلم، ح (163).

([10]) البخاري، ح (4163).

([11])البخاري، ح (671)، ومسلم، ح (467).

([12]) البخاري، ح (675)، ومسلم (470) واللفظ له.

([13]) أبو داود، ح (4991)، وأحمد في المسند، ح (15740) 3/ 447، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة، ح (748).

([14]) البخاري، ح (1224)، ومسلم، ح (923).

([15]) البخاري، ح (2842)، ومسلم، ح (2549).

([16]) مسلم، ح (1695)، وأحمد في المسند، ح (26585) 6/297.

([17]) مسلم، ح (2139).

([18]) البخاري، ح (5038)، مسلم، ح (2139).

([19]) أحمد في المسند، ح (22265) 5/256.

([20]) البخاري، ح (46)، ومسلم، ح (11).

([21]) أبو داود، ح (1368)، وأحمد في المسند، ح (8584)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، ح (3174)3/ 129.

([22]) البخاري، ح (36)، ومسلم، ح (1876).

([23]) البخاري، ح (1846)، ومسلم، ح (1113).