6- (الشفاعة والتوسط للجمع بين المتحابين)
- إن تقدير عواطف المحب، ومشاعره الآسره،وما ينجم عن ذلك من تذلـله بين يدي محبوبه طمعاً في وصله وشوقاً لقربه، كانت محل اعتراف من الرسول.ولا أدل على ذلك من سعيه للشفاعة بين(مغيث)الزوج الموله المغرم بـ(بريره)النافرة
فمما جاء في قصتهما أن رسول الله رآه يمشي خلفها ودموعه تجري على خديه فقال لها رسول الله (لو راجعته)فقالت:أتأ
إن المثير في قصة(مغيث وبريرة)الآتي:
1- نزول الرسول عند رغبة بريرة وعدم إكراهها على قبول من تكرهه.وهذا اعتراف ضمني منه بحق المرأة في اتخاذ القرار المناسب دون سيطرة ذكورية،وتقديره لمشاعر المرأة التي
لا تملك تغييرها أو السيطرة عليها كالحب أو البغض والنفور.
2-إخبات ورجاحة عقل بريرة حينما سألت رسول الله إن كان ذلك أمر نبوي فلا تملك الخروج عنه أم شفاعة فيحل لها أن تتحلل منه.
3-تقديره لأثر مشاعر الحب في نفس صاحبها من إيقاعه في الألم والذل والحزن.
فما في الأرض أشقى من مُحِّب * وإن وجد الهوى حُلّو المذاق تـراه باكـياً في كـل حيـن * مخافة فـرقة أو لاشتيـاق
فيبـكي إن نأوا شوقـاً إليهـم*ويبكي إن دنوا حذر الفِراق
4-من الفرائض المنسية الإصلاح بين المتخاصمين عامة،والتوفيق بين الزوجين خاصة،على الرغم من أنه من العبادات المباركة ومن وجوه الإحسان النافعة والتي قرنها تعالى بتقواهفاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم الأنفال آية 1.
وعلى الرغــم أن الكذب كبيرة من الكبائر إلا أن مصلحة
الإصلاح بين المسلمين تربو على مفسدة الكذب لذا أجاز
الشارع الحكيم الكبيرة وأباح الممنوع لتوطئة سبل الإصلاح بين المتخاصمين(ليس الكذاب الذي يصلح بين المؤمنين) وفي رواية (الآخرين).
وإن كانت هناك مؤسسات اجتماعية تعني بهذا،إلا أنه لا بد من الاجتهاد في تفعيل دور هذه الجهات بزيادة أعدادها،وتكثيف دورها،واجتذاب ذوي الحكمة والخبرة لا لتقديم الرأي وبذل المشورة فحسب بل للعمل الجاد والسعي الحثيث في إنجاح دور هذه المؤسسات،لاسيما
ومما يثير الاستغراب هو السلبية القاتلة التي يقفها الأفراد إزاء المتخاصمين فهم مابين معرض بالكلية إما لأنه لا يعنيه أو لانشغاله عنه وإما للرعونة والتشدد في الخصومة والتعصب للرأي التي يتصف بها المتخاصمين،مما يحدو بالأفراد إلى تجنبهما إثياراً للسلامة وخوفاً من التفاف دائرة المشكلات لتبتلع المصلحين أيضاً.
وقد ترجع تلك السلبية تجاه المتخاصمين إلى آفات قلبية وعيوب خُلقية في أشخاص المحيطين بهم كالحسد والحقد والتنافس على شيء من أعراض الدنيا، فجاءت النتيجة شافية لقلوبهم المريضة ومحققة لآمالهم الرخيصة!!
إن المكارم كلها لو حصلت رجعت بجملتها إلى شيئـين
تعظيـم أمر الله جل جلاله والسعي في إصلاح ذات البين
ويبقى الحب ما بقي الوفاء
فقد ورد في أحاديث كثيرة عن النبي مساءلته لربه عن أمته حتى قال ربه (إنَّا سنرضيك في أمتك ولا نسئوك) فاطمأن
النبي .
- ما أكثر الهموم التي تتناوشنا،وهي على كثرتها،إلا أنها تحمل مقاييس وأبعاد مختلفة.
فمّنا من همه بطول هامته، ومنّا من قد بلغ همه بعد نظره ومنّا من تخطئ بهمه خطوط الزمان والمكان..
وهمومنا تلك تفاوتت في قدراتها في العمل بأصحابها،فمنها ما تفري فينا فري الرحى،ومنها ما جعلتنا نجثو على ركبنا،معصوبي الأعين منكسي الرؤوس في مشهد يقطر ذلاً وأسى،ومنّا من أحالته فارساً مغواراً،لا يترجل عن صهوة جواده يعشق الألم والكرى..؟وكل بقدر ما أهمه.
- لا أجد مشاعر مركبة ومواقف متباينة كتلك التي نشعر بها ونقفها ممنْ يشكو البطالة من شبابنا.
فما أسرع ما نتوجع لأنينهم وبثهم حينما نجالسهم ونحاورهم.
وما أكثر ما نرثي حالهم حينما نعاين تجمعاتهم وتسكعاتهم،وما أعظم غضبتنا عليهم وتسفهينا لهم حينما نقف على جناية جوارحهم..ولأن المسئولية الفردية من أهم مبادئنا التربوية إذ (كل نفس بما كسبت رهينة).
فلا بد من أن نهيب بواجب هذه الفئة الشبابية تجاه أنفسهم ودينهم وأمتهم أولاً ثم لا بد من تعريفهم في رحلة بحثهم عن وظيفة بمعايير الوظيفة الناجحة.
- فلو أن كل شاب أحس بحاجة والديه وأفراد أسرته له فسعى في قضاء حوائجهم وتفقد مصالحهم ثم هو بعد مؤدي لفرائض دينه،يخدم مسجد حَيَّه إما في إحياء حلق تحفيظ القرآن أو في مدارسة علم نافع،ثم تراه مساءاً عضواً فعّالاً في إحدى اللجان الخيرية أو طالب في إحدى المعاهد التربوية أو المهنية أو اللغوية أو الأدبية..
لتحول فراغه القاتل إلى شغل منتج..
وذكره الخامل إلى صيت فاعل..
وهمه الدني إلى همة عالية..
أما معايير القبول الاجتماعي للوظيفة فلا تلتفت إليها إن لم تخالف ديناًً أو تعارض مبدأً ولتكن أنت أول من يجروء فيكسر ذلك الطوق الخانق.
واستمتع بوظيفتك النافعة،وعد نفسك من المحظوظين.
وتذكر أنك تزداد نجاحاً باتساع دائرة المنتفعين من مهنتك لأن هذا هو المعيار الأصلي لقيمة الوظيفة.
تعقيب:-قد يتهمني البعض بالمثالية وإيثار التحليق بعيداً عن لغة الواقع،وأقول ليس دفاعاً وإنما إقراراً:-
نعم من السهل جر القلم عند الحديث عن موضوع البطالة،ولكن حديثي لا يخرج عن دائرة الأطروحات الممكنة لفرد عادي موجه لأفراد عاديين بعيداً عن صانعي القرارات وإلا لنحى قلمي منحى آخر إذ التهمة توجه حينئذٍ إلى التخبط
والقصور في التخطيط المستقبلي.
(ركب الأحبة)
- لقد امتد حبه ليشمل أقواماً من أمته يؤمنون بالله ويحبون نبيه محمد من غير مشاهدة،وإن كان الغالب أن حب الناس يقوى بالمشاهدة ويزداد بدوام الملاطفة والمؤانسة،ولكن حبه لأمته اخترق حجب الزمان والمكان ليشمل أقواماً لم يعاصرهم ولم يعاصروه ولم يرهم ولم يروه فصلوات ربي وسلامه على رسول الحب والسلام..
جاء في صحيح مسلم قولة صلى الله عليه وسلم:(وددت أناقد رأينا اخواننا)قالوا:أو
- إذا كانت الفرص متاحة لدى الصحابة ليبرهنوا على صدق
حبهم لله عز وجل ولرسوله بدوام طاعتهما والمجاهدة بأموالهم وأنفسهم لتشييد صرح هذا الدين،فإن هناك أقوام آخرون يجيئون بعد وإن فاتهم شرف صحبته إلا أنهم لشدة حبهم لرسول الله بأنهم لو خيروا بين رؤية الرسول مقابل خروجهم من أموالهم وتضحيتهم بأهليهم لاختاروا مشاهدته دون أدنى تردد فاستحقوا لصدق رغبتهم تلك أن يكرمهم الرسول بالآتي:-
1- امتداحهم والثناء عليهم مما أثار معه استغراب الصحابة.
2- التعبير عن رغبته برؤياهم.
3- وصفهم بالإخوان.
4- الإشادة بتميزهم عن سائر الأمم.
5- امتداحهم لا بالثبات على الطاعة فحسب بل واكتواءهم بجمرة غربة الدين كما جاء وصفهم في بعض الروايات كالقابض على الجمر.
- إن طرازاً فريداً من نوعه مَنْ يتمتع برشاقة قلب وشفافية
روح يجوب عبرهما الآفاق ليغمر الكون من فيض روحه،ويحلق بعيداً يتخطى العوالم الحاضرة إلى أجيال قادمة عرفهم وعرّف بهم،قلدهم وسام(الأخوة) لما فاتهم شرف الصحبة ونفض عنهم غبار الوحشة بـ (طوبى الغربة).
- إنَّ عمق التواصل وقوة العلاقات منشؤها صلابة المعدن وصلاح القلب،فإذا اجتمع لدى المرء منبت طيب في روضة مباركة وقلب سليم في صدر مضيء كان جديراً بإقامة علاقات فاعلة تتسم بالشمولية والنجاح،وكلما قوي هذان القطران واشتدا كلما اتسعت دائرة محبيه ونجحت في قاعدة مطردة وسنة ثابتة.
فكيف ما لو عرفنا أن دائرة العلاقات عند رسول الله عمَّت المتقدمين و امتدت للمتأخرين في منظومة إنسانية وحلقات بشرية متصلة، فالسابقون انقطعت آمالهم إلا من الدعاء الحسن والذكر الجميل (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين..وإنَّا
العافية).مسلم /الجنائز.
واللاحقون لا يرجون منَّا غير الإشادة والإعانة(فطوبى للغرباء).
- إن الاستظلال بشعار عقيدة التوحيد،والرضا بالسير خلف لوائها،وإتباع منهجها،أحد أقوى أسباب مضي القافلة الإيمانية قدماً في رحلتها التاريخية،تجوب الدهور وتعبر العصور،لا يخاف الركب ما يرصده لها المتربصون بها من الأشرار وقطاع الطرق،تحدب قلوب سادتهم على عامتهم،ويحنو أقصاهم على أدناهم،يعرف بعضهم بعضاً بوضاءة الطاعة ودوام الإخبات.
إنها كوكبة إيمانية بدأت من لدن نوح،لينتهي طرف خيطها حينما يستأذن لها خيرها وسيدها محمد أبواب الجنات،وقتها تلقي بأبدانها الكالة،تنفض عنها غبار السفر والنصب حينها تستقبلها أفواج الملائكة الأطهار بسلام من رب رحيم غفار..
7- (الدفاع والذب عن المحبوب )
حينما جيء برجل سكران شرب الخمر وتكرر ذلك منه مراراً قال أحدهم: أخزاك الله،وفي رواية لعنك الله.وما أكثر ما يؤتى بك إلى النبي فظهر على وجه النبي الغضب فقال:(لا تلعنه،فإنه يحب الله ورسوله).فتح الباري جـ 12 الباري جـ 7.
وروى البخاري رحمه الله في كتاب التفسير من صحيحه عن أبي الدرداء قال):كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر،فأنصرف عنه عمر مُغْضباً،فاتبعه
- إن من صور الحب المشرقة،هو وعي أصحابه ويقظتهم تجاه كل ما يعكر صورة المحبوب ويخدش كرامته،وينال من شخصه،فيهب المحب الصادق فزعاً للدفاع عنه،والتذكير بفضله ورد قالة السوء عنه،وهنا فقط ينكشف معدن المحب فيظهر الأصلي و ينفضح المزيف!
إنَّ أخاك الصدق من كان معك**ومن يضر نفسه لينفعك
ومَنْ إذا ريب الزمـان صدعك**شتت فيه شمله ليجمعك
- ولأنه جرت مقادير رب الخلق سبحانه جعل النقص من صفات البشر،فقلما نجد مَنْ تصفو لنا مشاربه كلها،ويحز على رضانا في الأمور جلها،ولكن هذا لا يعد مبرراً لنقص منزلته،وضعف مودته،والإغضاء عن محاسنه.
وهذا ما حمل أبا العتاهية للتنقيب عنه:
وإني لمحتاج إلى ظل صاحب
يروق ويصفو إن كدرت عليه
ولعل كلمات الشاعر أكثر تفصيلاً في موضع آخر:
أنا والله أهـوى كل خل
يقّدرني ولو حالت دهـور
يقيل العثرة الكبرى كريماً
ويستر حين تنكشف الأمور
8- ( تكريم المحبوب والمحب)
في يوم خيبر قال النبي:(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله،ويحبه الله ورسوله،يفتح الله على يديه) فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يُعطاها فقال:(أين على بن أبي طالب؟)قيل يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه،فأتي به،فبصق رسول الله في عينيه ودعا له،فبرئ كأن لم يكن به وجع).
البخاري ومسلم.
- إنَّ إكرام المحبوب له صورٌ شتى منها المادي وذلك بإسباغ النعم عليه تبعاً للمقدرة ومنها المعنوي بإظهار منزلته وامتداحه ودوام ذكره.
9- (تفقد المحبوب ومتابعته وأداء حقوقه)
أخرج النسائي من طريق معاوية بن قرة عن أبيه،قال: (كان النبي إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي فقال:( مالي لا أرى فلاناً؟)قالوا:يا
ومما جاء في مسند الإمام أحمد عن أبي بزرة الأسلمي،أن رسول الله سأل أصحابه:(هل تفقدون أحداً؟ قالوا:لا.
قال:لكني أفقد حبيباًً.قال:فاطل
قتلهم ثم قتلوه.فأتاه النبي فقال:( قتل سـبعة ثم قتلوه!هذا
مني،وأنا منه - مرتين أو ثلاثة).
وجاء من حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: (مرضت مرضاً فأتاني النبي يعودني وأبو بكر وهما
ماشيان،فوجداني أغمي علَّي،فتوضأ النبي ثم صب وضوءه علَّي،فأفقت،فإذ
من اللافت للنظر في الأحاديث السابقة وغيرهم إتباع رسول الله الخطوات التالية مجتمعة في أداء حقوق صحابته:-
أ- تفقد رسول الله صحابته حاضرهم وغائبهم بالسؤال عنهم على وفرة أعدادهم وكثرة شواغله.
ب- مبادرته بمواساتهم ومشاطرتهم أحزانهم وأفراحهم.
ج- السعي الجاد لرفع ما بهم من ضر وبلا،وقضاء ما عليهم من حوائج.
د- تكريمهم والإشادة بهم(وقد سبق بيانه).
والناظر في واقع الأخوان اليوم نرى تناقضاً عجيباً أو تفاوتاً
واضحاً في قضاء الحقوق السابقة كلها مابين مخل ومقصر أو
مُقل مستكثر.
- إن الدارس للطبيعة البشرية يلحظ تفاوتاً واضحاً بين الناس في استراتيجيات الذكاء الثمانية ولكن الأحاديث المنتقاة السابقة وغيرها تؤكد أن رسول قد بلغ الذروة وأحرز السبق فيها،ولن أخرج عما أنا بصدده وهو تفوقه في علاقاته الاجتماعية وهو ما يسمى الذكاء (البينشخصي) ولأنه نهى صحابته عن إطرائه ورفعه فوق منزلته وآثر أن يوصف بما امتدحه الله عز وجل به (عبد الله ورسوله) فهذا يعيننا كثيراً في تشخيص أسباب نبوغه،فهو وإن كان لا يختلف في طبيعته البشرية عن سائر البشر إلا أن أهم مصادر قوته وتميزه هو المدد الرباني والزاد الروحاني الذي به اصطفاه ربه ورفعه وهو(الوحي).
ولا يعني ذلك الدعوة للاستجابة للحيلة النفسية التي تدعو
لقطع صور الاقتداء به بحجة أنه (نبي ورسول)صلى الله عليه
وسلم،وأننا مهما بذلنا لن نصل إلى مقامه،بل علينا واجب
ثقيل نحو أنفسنا،بتطويرها