Get Adobe Flash player

رسالة اليوم من هدي الرسول

(أزواجه) لم يتزوج النبي بكراً غير عائشة ولا امرأة في مثل سنها، بل الغالب أن يخلف على امرأة فقدت زوجها شهيداً أو مهاجراً أو تقع له في سبي الكفار فتسلم فيكون خير عوض لها، وكان زواجه من عائشة بوحي في الرؤيا، فعن عائشة قالت قال لي رسول الله: رأيتك في المنام يجيء بك الملك في سرقة (أي قطعة) من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب فإذا هي أنت فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه. متفق عليه.

البحث

كتاب الرحمة في حياة الرسول

شاهد مكة المكرمة مباشرة

إقرأ مقالا من أكبر كتاب في العالم

إبحث عن محتويات الموقع

ننصحك بقراءة هذا الإصدار

شاهد المدينة المنورة مباشرة

المسجد النبوي _ تصوير ثلاثي الأبعاد

Madina Mosque 3D view

الرئيسية

 وإن من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم زهادته في الدنيا وإعراضه عنها ترقباً لجزاء الله في الآخرة، ولو كان دعياً يفتري الكذب لما فرط في دنيا يفتري ابتغاء الكسب فيها، فإعراضُه صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وزهدُه في متاعها دليل نبوته ورسالته.

وأول ما نلحظه أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطلب أجراً على نبوته من أحد، بل كان يقول بمثل ما قال إخوانُه الأنبياء من قبل: } قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين { (ص: 86).
واستغناء الأنبياء عن أجر الناس وجزائهم دليل على نبوتهم، وأنهم يرقبون الأجر من الله، ولذا لما دعا مؤمن آل ياسين قومه للإيمان بأنبياء الله قال لهم: } قال يا قوم اتبعوا المرسلين % اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون { (يـس: 20-21).

ودعونا نتأمل بعض صنيعه صلى الله عليه وسلم وبعضَ ما أنزل الله إليه ، ثم ننظر هل هذا صنيعُ دعي كذاب، أم هو أدبُ النبوة وعبق الرسالة؟
كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثِر حياة الزهد، ويدعو الله أن يجعله من أهلها، فكثيراً ما تبتل إلى ربه مناجياً: ((اللهم أحيني مسكيناً، وأمِتْني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)).[1]

وخيره ربه بين المُلكِ في الأرض وبين حياة الشظف والقِلة، فاختار صلى الله عليه وسلم شظف العيش زهادة منه في الدنيا وترفعاً على متاعها، ففي حديث أبي هريرة رضيى الله عنه أن ملَكاً نزل من السماء، فقال: يا محمد أرسلني إليك ربك. قال: أفملِكاً نبياً يجعلُك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل عبداً رسولاً)).[2]

وإذا تأملنا حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ونظرنا كيف كان يعيش صلى الله عليه وسلم في بيته، فإنا راؤون عجباً، فلكم بقي عليه الصلاة والسلام طاوياً على الجوع ، لا يجد ما يأكله، وهو رسولُ الله وصفوتُه من خلقه، يقول أبو هريرة: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قبض).[3]

ورآه عمر رضيى الله عنه يتلوى من الجوع، فما يجد رديء التمر يسد به جَوعَتَه ، ثم رأى رضيى الله عنه ما أصاب الناس من الدنيا فقال: (لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلْتَوي، ما يجد دَقَلاً يملأ به بطنه).[4]

والدقل: هو التمر الرديء.
وحين يجد النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فإنما يجد خبز الشعير فحسب، يقول ابن عباس حاكياً حال ابن عمه صلى الله عليه وسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعةَ طاوياً، وأهلُه لا يجدون عشاء، وكان أكثرُ خبزِهم خبز الشعير).[5] ومع ذلك فما كان يجد ما يشبعه منه.
وهذا الشعير الذي لم يشبع منه صلى الله عليه وسلم كان من رديء الشعير، لا من جيده، فقد كان غير منخول.

سئل سهل بن سعد: هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي [أي من الشعير]؟ فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله.
فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه [أي: بللناه بالماء] فأكلناه.[6]

وتحكي أم المؤمنين عائشة لابن أختها عروة حال بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: (ابنَ أختي، إنْ كنا لننظرُ إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثةَ أهلَّةٍ في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار).

فسألها عروة: يا خالةُ، ما كان يُعيشُكم؟ قالت: (الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا).[7]
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم دُعي أبو هريرة رضيى الله عنه إلى شاة مشوية، فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير.[8]

وتدخل امرأة وابنتاها على أم المؤمنين عائشة يشكون الجوع، فما الذي وجدوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟
تجيبنا أم المؤمنين عائشة: فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة، فأعطيتُها إياها، فقسمَتَها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثم قامت، فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرته فقال: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار)).[9]

وفي مرة أخرى يطرق باب النبي صلى الله عليه وسلم ضيف، فلا يجد عليه الصلاة والسلام ما يضيفه، فيرسل إلى بيوته يسأل نساءه، فلا يجد عندهن شيئاً سوى الماء، فلم يجد رسول الله بُداً من الطلب من أصحابه أن يضيِّفوه.[10]

ومع ذلك كله فقد كان لسانه صلى الله عليه وسلم لا يفتَر أن يطلب دوام حال الكفاف والزهادة ، فيقول داعياً ربه: ((اللهم ارزق آلَ محمدٍ قوتاً)).[11]
قال القرطبي: "معنى الحديث أنه طلب الكفاف , فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة, وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغِنى والفقر جميعاً".[12]

وإذا تساءلنا عن أثاث بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعيش إلا كسائر لأصحابه، أما وساده صلى الله عليه وسلم فتصفه أم المؤمنين عائشة وتقول: (كان وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتكئ عليها من أدَم [جلد مدبوغ]، حشوها ليف).[13]

وأما فراشه فحصير يترك أثراً في جنبه، يقول ابن مسعود: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاء [فراشاً] فقال: ((ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)).[14]

ودخل عليه عمر رضيى الله عنه، فرآه مضطجعاً على حصير قد أثر في جنبه، وألقى ببصره في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيها قبضةٌ من شعير، نحو الصاع ، وقبضة أخرى من ورق الشجر في ناحية الغرفة.
 قال عمر: فابتدرتْ عيناي بالبكاء. فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟)) قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنتَ رسولُ الله وصفوتُه، وهذه خزانتك!
فقال: ((يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟)) قلت: بلى.[15]

ودخلت امرأة أنصارية بيته صلى الله عليه وسلم ، فرأت فراشه مثنية، فانطلقت، فبعثت بفراش فيه صوف إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ((رُدِّيه يا عائشة، فوالله لو شئتُ لأجرى الله عليّ جبال الذهب والفضة)). قالت عائشة: فرددته.[16]

لقد كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، ممتثلاً أمرَ ربه الذي أمره أن يعيش عيشة الكفاف والزهد، وأمره أن يخير نساءه بين حياة الزهد معه وبين تسريحهن إلى بيوت أهلهن، فاخترن جميعاً رضي الله عنهن البقاء معه على هذه الحال.

تقول عائشة: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: ((إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك)) ...
 
ثم قال: إن الله عز وجل قال: }يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً % وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً { (الأحزاب: 28-29).
قالت: فقلتُ: في أي هذا أستأمرُ أبويَّ؟ فإني أريد اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة.
 قالت: ثم فعل أزواجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلَ ما فعلتُ.[17]

وتشكو إليه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها ما تلقى في يدها من الرحى، وترجو من أبيها أن يعطيها خادماً يخفف عنها ما هي فيه، فلا يجد الأب الحاني من نصيحة لابنته وزوجها أفضلَ من قوله: ((ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشِكما أو أخذتما مضاجِعكما، فكبرا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم)).[18]

وأدركت فاطمة معدِن أبيها ونوعه بين الرجال، وعرفت إيثاره الآخرة على الدنيا، فأتته ذات يوم بكِسْرةِ خبزِ شعير، فأكلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((هذا أول طعام أكله أبوكِ منذ ثلاث)).[19]
وتدور الأيام دورتها، وتقبل الدنيا على المسلمين، فيقف عمرو بن العاص يخطب الناس بمصر فقال: (ما أبعد هديَكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، أما هو فكان أزهدَ الناس في الدنيا، وأنتم أرغبُ الناس فيها).[20]

وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم جبل أُحدٍ فقال لأصحابه: ((ما أحب أنه تَحوَّل لي ذهباً، يمكث عندي منه دينارٌ فوق ثلاث، إلا ديناراً أرصدُه لدَين)).
ثم قال: ((إن الأكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وقليل ما هم)) وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله، أي يفرقه.[21]

وتروي عائشة من خبره صلى الله عليه وسلم عجباً، فتذكر أنه كان في بيتها بعضُ قطعٍ من ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعلتْ الذهبُ)) فقالت عائشة: هي عندي، فقال: ((ائتيني بها)).
تقول عائشة: فجئتُ بها، فوضعها في يده ثم قال بها [أي رماها] ، وقال: ((ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده؟ أنفقيها)).[22]

وكيف لا يكون هذا حاله، وهو الأسوة الحسنة الذي أوصى أصحابه بالاقتصاد من الدنيا، فكان أسبقهم إلى ذلك، يقول سلمان: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً أن يكون بُلغَةُ أحدنا من الدنيا كزاد الراكب).[23]
وحين غادر صلى الله عليه وسلم الدنيا ماذا ترك لأهله منها؟
يجيب عمرو بن الحارث أخو أمِ المؤمنين جويرية فيقول: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً؛ إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة).[24]
ويروي الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير.[25]
وكما زهد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا زمن حياته، فإنه لم يبتغ جر نفع من منافعها إلى أهله وذويه بعد موته ، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يبتغي أن يجر لأهله شيئاً من زخارفها، لذا قال صلى الله عليه وسلم: ((لا نورّث، ما تركناه صدقة)).[26]
وهكذا فإنه يحق لنا أن نتساءل عن الكسب الدنيوي الذي جناه النبي صلى الله عليه وسلم من نبوته، فإنه عاش عيشة المساكين التي تمناها ودعا الله بدوامها، فكان طعامه خشنُ الشعير، ورديءُ التمر، إذا ما تيسر له ذلك، وأما وساده وفراشه صلى الله عليه وسلم فهما دليلٌ آخرُ على استعلاء النبي صلى الله عليه وسلم على الدنيا التي هجرها صلى الله عليه وسلم بإرادته واختياره.
 وصدق فيه قول الشاعر:
وراودَته الجبال الشُّمُّ من ذهب  عن نفسه فأراها أيما شمم

[1] رواه الترمذي ح (2352)، وابن ماجه ح (4126)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (3328).
[2] رواه أحمد ح (7120)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (1002).
[3] رواه البخاري ح (5374).
[4] رواه مسلم ح (2978).
[5] رواه الترمذي ح (2360)، وابن ماجه ح (3347)، وأحمد ح (2303)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (2703).
[6] رواه البخاري ح (5413).
[7] رواه البخاري ح (2567)، ومسلم ح (2972).
[8] رواه البخاري ح (5414).
[9] رواه البخاري ح (1418)، ومسلم ح (2629).
[10] انظره في البخاري ح (3798)، ومسلم ح (2054).
[11] رواه البخاري ح (6460)، ومسلم ح (1055).
[12] نقله عنه ابن حجر في فتح الباري ح (11/299).
[13] رواه البخاري ح (6456)، ومسلم ح (2082)، اللفظ له.
[14] رواه الترمذي ح (2377)، وابن ماجه ح (4109)، وأحمد ح (3701)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (3317).
[15] رواه البخاري ح (4913)، ومسلم ح (1479) ، واللفظ له.
[16] رواه البيهقي في الشعب ح (1449)، وأحمد في الزهد ح (77)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح (3287).
[17] رواه البخاري ح (4786)، ومسلم ح (1475) واللفظ له.
[18] رواه البخاري ح (6318) ، ومسلم ح (2727).
[19] رواه أحمد ح (12811).
[20] رواه أحمد ح (17353)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ح (3294).
[21] رواه البخاري ح (2388)، ومسلم ح (94).
[22] رواه أحمد ح (24964).
[23] رواه أحمد ح (23199).
[24] رواه البخاري ح (2739).
[25] رواه أحمد ح (2719).
[26] رواه البخاري ح (3094)، ومسلم ح (1757).

د. منقذ بن محمود السقار