فِي رَمضانَ مِنَ السَّنةِ الثَّانِيةِ وَقعتْ غَزوةُ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَسببُها أَنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) خرجَ ومعهُ ثلاثُمائةِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً ليعتَرِضَ عِيرًا عظِيمةً لِقريْشٍ وَهِيَ رَاجِعَةٌ مِنَ الشَّامِ.وَكَان
وَهمَّ النَّاسُ بالرُّجوعِ إِلَّا أَنَّ أَبَا جهلٍ حَثَّهم عَلَى المضيِّ قُدُمًا للقِتَالِ، فَرَجَع بِنُو زَهْرَةَ وَكَانُوا ثَلاثَمائةٍ, وَوَاصَلَ البقيةُ المسِيرَ وَكَانُوا ألفًا حَتَّى نَزَلُوا خَارِجَ بَدْرٍ فِي مَكانٍ فَسيحٍ وَرَاءَ الجِبَالِ المحِيطَةِ بِبدْرٍ.
أَمَّا رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فاستَشَارَ أصحَابَه، فَوَجَدَ مِنْهم العزْمَ والتصْمِيمَ عَلَى القِتَال وَالتضْحَية فِي سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، فَسُرَّ رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، وَقالَ لَهُمْ: "سِيْرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن
وَتَقَدَّم النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ونَزل قَريبًا مِنَ العُدْوةِ الدُّنْيَا فِي بَدْرٍ, فَأَشَارَ عَلَيْهِ الحُبَابُ بْنُ المنذِرِ أَنْ يتقدَّم فينزِلَ عَلَى أَقْربِ مَاءٍ مِن العدُوِّ، بحيثُ يجمَعُ المسلِمونَ الماءَ فِي حِياضٍ لأنفُسِهِمْ, وَيُغَوِّرُونَ بَقيةَ الآبَارِ، فَيَبقَى العدوُّ وَلَا ماءَ لَه, فَفَعلَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) مَا أشارَ بِهِ الحُبَابُ.
وَباتَ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) ليلةَ الجمُعةِ – وَهِيَ ليلةُ بَدرٍ – سَابعَ عَشَرَ مِن رَمضَانَ قَائمًا يُصلِّي وَيَبْكِي وَيدْعُو اللهَ ويستَنْصِرُه عَلَى أعدائِهِ.
وَفي المسْندِ عَنْ عليّ بْن أَبِي طالبٍ قَالَ: لَقَدْ رأيتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) تَحتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي ويبْكِي حَتَّى أَصبَحَ.
وَفِيه أيضًا قَالَ: أَصابَنا طَشٌّ مِن مَطرِ – يَعني ليلةَ البَدْرِ – فانطلقْنَا تَحتَ الشجَر والحجف نَسْتَظِلُّ بِهَا من المطرِ, وَبَاتَ رسول اللهِ (صلى الله عليه وسلم) يدعُو ربَّه ويقولُ: "إنْ تَهْلِكَ هذه الفئةُ لَا تُعْبَد"، فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الفجرُ نَادَى: "الصَّلاة عِبادَ الله"! فجاءَ النَّاسُ مِنْ تحتِ الشَّجَرِ والحجف، فَصَلّى بِنَا رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَحثَّ عَلى القِتَالِ.
وَأمدَّ اللهُ تَعَالى نبيَّه والمؤمِنينَ بنَصْرٍ مِنْ عِنْدِه، وَبِجُنْدٍ مِنْ جُندِه كما قَالَ تَعَالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ
وَقَالَ تَعَالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123]، وقال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ [الأنْفَال: 17].
فابتَدأَ القِتَالُ بالمبَارَزَةِ فَقَتَل حمزةُ شَيْبَةَ بْنَ ربيعةَ, وَقَتل عليُّ بْنُ أَبِي طالب الوليدَ بْنَ عُتْبَة، وجُرِحَ عتبةُ بْنُ ربيعةَ مِن المشْرِكين وَعُبيْدَةُ بْنُ الحارِث مِنَ المسْلِمِينَ.
ثُمَّ بَدأ القِتَالُ واشتَدَّ، وَحمِي الوطِيسُ, وَأيّدَ اللهُ المسلمِينَ بالملائكةِ تُقَاتِلُ دُونَهم وتثبِّتُ قُلوبَهمْ, وَمَا هِي إِلا سَاعةٌ حَتَّى هُزِم المشْرِكُونَ وَولَّوا الدُّبُرَ، وتَبعَهمُ المسْلِمونَ يَقتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ, فَقُتِلَ مِنَ المشرِكينَ سَبعونَ، مِنْهم: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةُ, وَأميَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَابْنُه عَلِيٌّ, وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيانَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ وَغيرُهُمْ.
وَأُسِر مِنَ المشرِكين سَبْعونَ.
وَكَانَ مِن نَتَائِجِ غَزوَةِ بَدْرٍ أَنْ قَوِيتْ شَوكَةُ المسْلِمِينَ, وَأصْبَحُوا مَرْهُوبِينَ في المدِينَةِ وَمَا جَاوَرَهَا, وَازْدَادَتْ ثِقَتُهُم باللهِ تَعالَى، وَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ ينْصُرُ عِبادَه المؤمنينَ وَلَو كَانُوا قِلَّةً عَلَى الكافرينَ وَلَو كَانُوا كَثْرَةً، وَمِنَ النَّتائجِ أيْضًا أنَّ المسلمينَ اكْتسبُوا مَهَاراتٍ قِتاليةً, وَتعلَّمُوا أَسَالِيبَ جَدِيدةً فِي القِتَالِ وَالكرِّ والفرِّ وَحِصارِ العدَوِّ وَحِرْمَانِهِ مِنْ أَسْبَابِ القُوَّةِ وَالاسْتِمْرَار
في رحاب السيرة النبوية 23
بقلم: أ.د. عادل بن علي الشدي
الأمين العام المساعد
لرابطة العالم الإسلامي